درويش والمماليك

19 يناير 2023

(نجيب بلخوجة)

+ الخط -

على سبيل التفكّه الرخيص واستدراج المتابعين وأيقونات الإعجاب في حسابات التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى الاستجابة لاستدراج الوهم النقدي، يعمد بعض الذين أدركتهم حرفة الوصاية على أذواق الناس الأدبية إلى انتزاع مقاطع شعرية من سياقاتها في القصائد، ليقدّموها نماذج على الرداءة، وفق ما يزعمون.

المشكلة أن الردّ والتعليق على ما يقترفه هؤلاء قد يبدوان أحياناً من جنس العمل نفسه، وهذا غير صحيح في عمق النظرة إليه، فتصحيح المعلومة لا يدخل في سياق مصادرة الحقّ بقول هذه المعلومة الخاطئة، والأمر دقيقٌ فعلاً على أية حال.

قبل أيام، صادفتُ مقطعاً شعرياً مستلّاً من سياقه في قصيدة محمود درويش "ربّ الأيائل يا أبي"، نشره مغرّد في منصة تويتر مصحوباً بتعليقٍ غاية في السطحية والركاكة على ما اكتنفه من غباء في الكتابة وتقصّد في تشويه المقطع!

الغريب أن بعض متابعي ذلك الدعيّ الأدبي أكملوا فكرته التي حاول من خلالها نزع الشعرية عن موهبةٍ بحجم موهبة محمود درويش. ويا لهول ما صنع وصنعوا، ليس على صعيد المعنى الموضوعي وحسب، وإنما أيضاً على صعيد مستوى اللغة التي تداولوا من خلالها المقطع المستلّ عشوائياً كما يبدو، من واحدة من أهم قصائد درويش على الإطلاق.

صحيحٌ أن جزءاً من فكرة النقد الأدبي تكمن في حرية الناقد بتلقّي ما يقرأه من أدب، وأن له الحقّ كله في انتقاد ما يتلقاه وتصنيفه وفق رؤيته العامة وذوقه الخاص، ولكن هذا لا يعني أبداً أن نذبح بسكين الادّعاء وبترصد وسابق إصرار، القيمة الجمالية للنصوص الشعرية وغير الشعرية فقط لأنها على غير ما تعوّدنا قراءته وسماعه من نصوص أدبية، أو لأننا نريد تسويق أفكارنا وحدها في فضاء الإبداع، أو لأننا، ببساطةٍ، نريد أن نصادر كل ذائقةٍ إبداعيةٍ لا تشبه ذائقتنا الخاصة.

قرأتُ التعليقات التي احتفى بها كاتب التغريدة تعضيداً لفكرته عن الشعر وعن محمود درويش، فوجدت أن جلها يمارس الانتقاء العشوائي، ويحاول أن يدلّل على صحة ذلك الانتقاء بشواهد غريبة، ليست خارجة عن سياق القصيدة الضحية وحسب، بل عن السياق التاريخي كله لتلك القصيدة ولشاعرها أيضاً.

ولأنني لا أريد ممارسة الفعل ذاته، لا أصادر حقّ أحد في ابتكار طريقته الخاصة بتلقي الشعر وغيره من النصوص، وحقه أيضاً في تصنيفها شعراً أم لا، فهذا مما لا ينبغي التنازع فيه أساساً. ولكنه، على صعيد آخر، لا يعني الخضوع لسلطات النقد الغبية وغير العادلة، فما كتبه شاعر ما باعتباره قصيدة تقرأ متكاملة في سياق واحد ينبغي تلقّيه هكذا، والحكم عليه انطباعياً وفق ذلك التلقي العادل. أما أن أعيد ترتيب الفضاء الشعري بما يلائم حكمي المسبق عليه، وبهدف استدراج الآخرين لتبنّي ذلك الحكم فهذا مما لا ينبغي القبول به.

أعرف أن الشعرية العربية قد أصيبت بنكوصٍ غريب في السنوات الأخيرة، تساوقاً مع صعود سهم منصّات التواصل الاجتماعي واتخاذها من الشعراء والقراء وسيلة لنشر الشعر بطريقة جماهيرية تتخذ من الإعجابات وإعادة التغريد والنشر وسيلة للنمو في تلك المنصّات، إلا أن ما تنبغي الإشارة إليه أن ذلك النمو هو نوع من الورم غير الصحّي، سرعان ما انتشر في جسد القصيدة العربية بما يهدّدها بالعودة الى زمن المماليك، والذي كان من أخطر أزمان الشعر العربي على الإطلاق، لا لقلة الموهبة الشعرية العربية، بل لأن الشعراء قد خضعوا لذائقة علية القوم الرخيصة، والتي كانت عالة على اللغة العربية كلها.

ولا عزاء لمحمود درويش سوى أنه شاعر.. شاعر في حقبةٍ تحتفي بمماليك الشعر.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.