دروس هتلر: العنصرية ليست حلاً
يفرد ونستون تشرشل في مذكراته فصلاً خاصاً بأدولف هتلر، يبدأه بالتذكير بأنه حاول دراسة الفن في أكاديمية الفنون بفيينا. يرى تشرشل أن فشل هتلر في تحقيق طموحه الفني وما كان يعانيه من إحباط شخصي، تماهيا مع حقبة كانت فيها بلاده، ألمانيا، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى تعاني، بشكل عام، من الفشل والاستضعاف، بعدما شرعت الدول في نزع سلاحها وإذلالها. كانت ألمانيا، على مدى عقود سابقة للحرب العالمية الأولى، تمثل تهديداً حيوياً لجيرانها، وخصوصاً فرنسا التي دخلت معها في حروب ونزاعات، وكان هدف المنتصرين إضعافها عسكرياً واقتصادياً عبر إجبارها على دفع تعويضات والمشاركة في إعادة الإعمار. هذا لم يحدث، لأن الولايات المتحدة وبريطانيا ساعدتا، لسبب غامض، ألمانيا على النهوض مرة أخرى بمنحها هباتٍ وقروضاً بمبالغ كبيرة. ليس ذلك فقط، ولكن البلدين رفضا أن تتمدّد الحدود الفرنسية لتصل إلى نهر الراين، ما كان سيشكل لفرنسا حماية وتأميناً.
اهتدى هتلر، في تفكيره بشأن هذا الواقع القاتم، إلى أن السبب في الأزمات الاقتصادية والفشل العسكري لم يكن سوى مجموعة اليهود الذين تغلغلوا في المجتمع، وسيطروا على ثروات البلاد، وأغرقوها في الفسادين المالي والأخلاقي. في سبتمبر/ أيلول من العام 1919، حينما حضر هتلر اجتماعاً لحزب العمّال، اكتشف أن كثيرين يفكرون بطريقته نفسها. لم يتأخر هتلر في الانضمام للحزب، ولم يمض وقت طويل حتى لحق به لقب "الفوهرر"، وأصبح زعيماً لما صار يسمّى "الحزب الاشتراكي الوطني"، الذي سيجمع بين العمل السياسي والأعمال المسلحة.
سوف يؤلف هتلر كتابه الشهير "كفاحي"، إبّان اعتقاله عقب محاولة أنصاره المسلحين السيطرة على إقليم بافاريا، وستكون تلك إحدى التضحيات التي ستواجه الفوهرر، قبل أن يصل إلى منصب المستشار، ويسيطر حزبه على البلاد. دخل في مواجهة مع الشيوعيين الذين كانوا يشكلون خطرًا عليه بسبب أفكارهم التي تنافس أفكاره الاجتماعية، وبسبب تبنّيهم العنف وتسلحهم، ولم يمض وقت طويل، حتى تمكّن هتلر من تفكيك خلاياهم، قبل أن أن يتفرّغ للقضاء على اليهود.
المتأمل في الخريطة العالمية يمكنه أن يلاحظ تمدّداً واسعاً للفكر العنصري
التحول في حياة هتلر غريب، فحتى تشرشل لم يخف أنه كان شديد الإعجاب به في أوائل الثلاثينيات، بسبب ما قدّمه لبلاده التي جعلها تقوم مرة أخرى من تحت الرماد بعد دمار وخراب، لكن الرغبة في الانتقام والثأر جعلت الزعيم الصاعد يرتكب أخطاء كبرى كثيرة، من بينها التنكيل بالمجموعة العسكرية الأولى التي أسست نواة حزبه.
خطيئة هتلر التي لم يغفرها له التاريخ تمثلت في محاولة قضائه على الوجود اليهودي في ألمانيا وأوروبا. سوف تنزع تلك الإجراءات العنيفة كل تعاطف مع ألمانيا، كما سوف تشكل وصمة عار لا تنسى. ولم تحل الإيديولوجية العنصرية النازية مشكلة ألمانيا، بل عقدتها وساهمت في حدوث ردّات فعل كبيرة، في مقدمتها توفير مبرّر للحركة الصهيونية، التي كانت تدعو إلى ضرورة أن يتجمّع اليهود في مكان أكثر أمناً، ولو كان على حساب شعب آخر. بسبب الجرائم النازية سوف تكون ألمانيا، ومن ورائها الدول الغربية، معرّضة للابتزاز اللانهائي من المنظمات الإسرائيلية التي لن تكتفي بالمطالبة بالتعويض عن الخسائر البشرية والمالية التي تبالغ في تقديراتها، وإنما ستعتبر أي مناقشة أو تشكيك حول هذا الموضوع عنصرية وعملاً "معادياً للسامية".
بعد قرابة القرن من فظائع الحروب العالمية الكبرى، نكتشف أن العالم لم يستفد كثيراً من دروسه السابقة، فمع أول تراجع للاقتصاد الأوروبي بعد عقود من الازدهار والرفاه، تم تحميل وزر الأزمة للأجانب والمهاجرين، وعلى الرغم من أن أكثر الأحزاب تعتبر تشبيهها بالنازيين بمثابة الإهانة، إلا أن الفروق تكاد تختفي بين الحالتين. يكفي هنا أن نقارن خطاب اليمين الأوروبي المعاصر بخطب هتلر ورفاقه، مع استبدال تحذير الهتلريين من تمدّد اليهود وسيطرتهم على مفاصل الدولة والاقتصاد بتحذير الأحزاب المعاصرة من زيادة أعداد العرب والمسلمين المهاجرين، وما يعتبرون أنها محاولة لـ"أسلمة" أوروبا.
تأخذ العنصرية درجات مختلفة، وقد يصل الحال ببعضهم إلى النظر بشكل عنصري، حتى لأبناء وطنهم
المتأمل في الخريطة العالمية يمكنه أن يلاحظ تمدّداً واسعاً للفكر العنصري وهذا موجود حتى في دول عربية كثيرة، يتنمّر بعض أبنائها على الشرائح الأضعف، أو في تركيا، التي يبني بعض سياسييها برنامجهم الانتخابي على تحميل اللاجئين، وخصوصا السوريين، وزر تدهور قيمة العملة التركية وتعثر الاقتصاد، بل وحتى زيادة الجرائم.
تأخذ العنصرية درجات مختلفة، وقد يصل الحال ببعضهم إلى النظر بشكل عنصري، حتى لأبناء وطنهم، ففي السودان تظهر اليوم تياراتٌ لا ترى أن مصدر المشكلة يكمن في فوضى الانتقال أو في فشل السياسيين أو فساد النخبة، وإنما يرون أنه يعود إلى ما يعتبرون أنه سيطرة لعرق معين أو لأبناء إقليم بعينه على موارد البلاد وعلى القرار السياسي. بهذا، الحل عندهم لا يتعدى المطالبة بانفصال تلك الأجزاء الإشكالية حلا نهائيا وسحريا.
ليس أدل على أن الإنسان لا يستفيد من أخطاء الماضي من أن النازية، التي كان اسمها يمثل وصمة عار حتى عقود قليلة خلت، عادت بوجه جديد في ألمانيا نفسها، التي ظهرت فيها تيارات تعلن سعيها إلى إحياء الماضي، وتطلق على نفسها اسم "النازيين الجدد". هذه المجموعات الخطرة اجتماعياً، ولكن أيضاً أمنياً، لن تقوم بأعمال إرهابية ضد المهاجرين فقط، وإنما ستستهدف بعض السياسيين الألمان الداعمين لهم أيضاً، كما حدث في مجموعة من الحوادث التي كان من أبرزها طعن عمدة مدينة كولون هنرييت ريكير في 2015، واغتيال السياسي الداعم للمهاجرين والتر لوبيك في العام 2019، الاغتيال الذي صنف كأول عملية إجرامية نازية منذ الحقبة الهتلرية.
بهذا الصدد، تذكّر المعلومات التي تم كشفها بواسطة السلطات الأمنية الألمانية عن محاولة مجموعة يمينية السيطرة على البلاد بمحاولة الشبيبة الهتلرية الفاشلة السيطرة على بافاريا، والتي لم تكن سوى مقدمة لحقبة التمدد النازي.