دراما تخريبية
تلقّى المصريون في الأعوام الأخيرة جرعاتٍ مكثّفة من الدراما التلفزيونية الموجّهة لأهداف سياسية أو اجتماعية، يتصدّرها إحياء الانتماء الوطني وتعميق الولاء المطلق لمؤسسات الدولة. وقد تضمّنت دراما رمضان هذا العام مُسلسليْن سياسييْن "وطنييْن" هما "الكتيبة 101" و"حرب". ولا يعرف كاتب هذه السطور أحداً شاهدهما، ولم يقرأ عنهما أي تعليقاتٍ لا مدحاً ولا قدحاً. أما بقية مسلسلات رمضان فانقسمت إلى نوعين: كوميدية خفيفة لا رسالة فيها ولا دافع وراءها إلا تسلية المشاهد. بعضها مثل "جت سليمة" و"اللعبة" و"الكبير"، يتضمّن قصصاً خيالية بلا عقدة درامية ولا رسالة ولا تناول لقضية أو مسألة مجتمعية، أو حتى حالة فردية. فقط مواقف منفصلة هدفها الإضحاك بقدرٍ من اللطافة والسطحية معاً. وتتضمن هذه المجموعة أيضاً مسلسلات "سياحية" أشبه بأدب الرحلات أو فيديوهات ترويج السياحة. حيث ينتقل أبطال "حمداً لله على السلامة" بين المدن، وتسافر بطلة "تغيير جو" خارج مصر، بلا مبرّر موضوعي ولا قصة محبوكة، فلا يتذكّر المشاهد من كل حلقات المسلسل سوى المعالم والأماكن التي دارت فيها "اللا" أحداث.
الكارثة في النوع الثاني، وهو من شأنه تدمير الوحدة الأساسية في المجتمع (الأسرة)، وضرب بعض الأسس الدينية والأخلاقية لإدارة العلاقات داخل البنى الاجتماعية، ففي مسلسل "جعفر العمدة"، قامت إحدى البطلات بحيلة قانونية للطلاق خُلعاً من زوجها. والكارثة أن تلك الخدعة التي شاهدتها ملايين السيدات، وربما تأثر بعضُهن بها، مخالفة للشرع! ما دفع شيخ الأزهر شخصياً إلى إصدار بيانٍ بالشروط الشرعية لصحّة "الخُلع". إضافة إلى الجرعة المعتادة والمكرّرة من استخدام العنف الجسدي وقوة السلاح في تحصيل الحقوق أو الانتقام ممن سلَبها. ومثل كل عام، تكرّرت هذه "الثيمة" أو النغمة في مسلسلات عدة، منها "ضرب نار" و"كشف مستعجل" و"الصندوق". على اختلاف مستوى المهنية في الحبكة الدرامية ومهارة المخرج وكفاءة الممثلين بين مسلسل وآخر.
وفي مسلسل "تحت الوصاية"، تقوم سيدة أرمل بسلوكيات مُستهجنة اجتماعياً ومحل جدل دينياً، تحت مبرّر الاضطرار والضعف أمام ضغوط مادية ونفسية تولدت بسبب الفقر والوحدة. وفي هذه الجرعة الدرامية المكثفة، الرسالة إلى المشاهد أن التعرّض للأذى والاضطهاد وانتزاع الحقوق دافع كافٍ للخروج على القانون والتخلّي عن تعاليم الدين، والحجّة تصحيح الأوضاع واستعادة الحقوق المسلوبة.
ساد هذا اللون من الدراما شاشات السينما منذ عقود، قبل أن ينتقل إلى التليفزيون، فيظهر البطل دائماً محبوباً ومرغوباً وجديرا بالتعاطف، حتى وإن كان يمارس كل أشكال الخروج عن الأخلاق والقانون، بل ويمعن في الانتقام استرداداً لحقّ أو لكرامة.
مسلسلان فقط يتطرّقان إلى الواقع المصري من زاوية محدّدة، العلاقات داخل الأسرة. فأجاد أحدهما "الهرشة السابعة" في تحليل نفسي واستعراض درامي لطبيعة التفاعلات المعقّدة والمتغيرة بين الزوجين. وأبدع الآخر "مذكّرات زوج" في التعمق داخل عقل رب الأسرة وقلبه، وكيف يتعاطى مع أعباء الحياة اليومية ويتفاعل مع سلوكيات أفراد أسرته وطموحاتهم، بمزيجٍ متنوّع، بل وأحياناً مرتبك من العقل والرزانة مع الحب والعاطفة. وللأسف، لم يأخذ هذان المسلسلان حقهما من المشاهدة والاهتمام، فجرفهما تيار الدراما الشعبوية المليئة بالقوة والخيانة والكذب. أو دراما الفانتازيا الخيالية التي تطير بالمشاهد خارج واقعه المرير ولتنسيه حياته المريرة.
تنذر دراما رمضان المنقضي قبل أيام بمرحلة جديدة في الخطاب الدرامي التليفزيوني، غرضها إعادة تشكيل المجتمع أولاً على مستوى الأسرة، بنسف قواعدها المتفق عليها دينياً وثقافياً. وثانياً على مستوى المجتمع ككل، بترسيخ ثقافة العنف وتنحية المبادئ والأخلاق والقانون، ليستقرّ في العقل الجمعي أن الحقّ بالقوة والقوة هي الحقّ.