داليدا والحياة التي لا تُطاق
هل تقود تُخمة الشهرة صاحبها إلى طلب الموت، وهل تُخمة الظهور تقود الروح إلى طلب الهدوء والظل، حتى بطلب الموت أو السعي إليه، كما قادت تُخمة الثراء بعض الأمم إلى الاضمحلال والهزيمة، تلك الأرواح التي سمّمتها السعادة بشيءٍ ما من السحر، سهم ساحر وحيد كان هناك في الداخل يفعل فعلته خلال السنوات. وفي النهاية أصاب، هل يصيب السهم الروح قبل الجسد، فيصير الجسد هشّاً وثقيلاً أيضاً وهيناً، بعدما كان موضع السعادة والأنظار؟
وهل انتحار الزوج والأحبّة والأصدقاء والمقرّبين تباعا كان بمثابة سبب أضيف إلى بقية الأسباب الأخرى "زوجها السابق لوسيان موريس ظلّ صديقاً مخلصاً لها، ثم انتحر بعد الإخفاق الشديد في حياته العاطفية، كذلك انتحر صديقُها الجديد المطرب والشاب لويدجي تنكو، وآخر المنتحرين في حياتها صديقها الجديد ريشار مغراي، بعدما صدر ضدّه حكم بالسجن عامين"؟ هل في حضور الأصدقاء والمحبّين والمقرّبين والخلصاء ذلك الجدار الروحي الحامي لذات الفنان من الانهيار، وانهيار ذلك الجدار مؤشّر لفتح الباب؟
متى يرى المودّع بدايات طيور هلاكه وعلى أي جناح، وهل للانتحار ذلك البريق الساحر الذي لا يراه سوى من أخذ القرار، إن كان هناك ذلك القرار أصلاً؟ هل الجسد بعد أن يفقد بريق مجده محمّلاً بعذاب السنين يعطي لنفسه فرصة الخلاص للروح والانعتاق من متطلّبات ذلك الجسد؟ ما الذي تركه جرح الغناء على ذات المنتحرة، في ساعة فاصلة ما بين المجد والزوال الأخير؟ يكون السهم قد بدأ الخروج من القوس، قوس الذات والحضارة والغناء والدنيا والأصدقاء والعالم كله، وتقول داليدا قولتها الأخيرة: "أصبحت الحياة لا تطاق ... اغفروا لي"، هذا في سنة 1987، فما بالنا لو رأت داليدا ما نراه الآن في العالم؟ ما الذي تركه جرح الغناء على روح داليدا؟ فعل محو الجسد تماماً عن العالم، وكتم الغناء وإطلاق الروح إلى مكانٍ هناك، في المتخيّل، مكان شرقي بامتياز، "بنت شبرا، كمكان ولادة، وبنت أسرة إيطالية الأصل دماء"، روح تعذّبت وانتظرت وعشقت، حتى كان السهم جاهزا، وأصاب.
حنجرة طافت البلدان، والآن، توسّدت التراب، تراب قبر ما. كل الأرواح المعذّبة هكذا، كأسمهان، فعلى أي ترابٍ صارت حنجرة أسمهان. أتذكّر كان للكاتب المغربي الراحل محمد شكري ذلك الطلب الغريب جدا: "هاتوا لي حفنة تراب في قماشةٍ من أمام قبر أسمهان"، وفعلها صديقه الكاتب العُماني الراحل أيضاً علي المعمري، لماذا دائماً كلّ راحلٍ جميل؟ فأيّ روحٍ هي التي تساكن التراب في القبر ويبحث عنها الراحل محمد شكري؟
هل يتذكّر فنجان القهوة السوداء في باريس فرع شجرتها في اليمن أو إثيوبيا مثلاً أو الهند، بعدما ابتعد جذرها عن حبّات القهوة، وصارت في فناجين المقاهي بباريس، وهل يتذكّر الجذر ثماره التي توزّعت في المدن، وهل يتذكّر الذي غنّى، عذاب من كتب على الورق، وهل تتذكّر الحنجرة عذاب عازف الآلة الذي عزف وتعذّب باللحن؟
هل كان لعودة داليدا لمصر تلك الدراما المصنوعة، في فيلم يوسف شاهين "اليوم السادس" بطرحتها السوداء ودمعاتها السخيّة في الصور، وهي تمثل دور فلاحة بسيطة، وذلك المكياج الحزين والدرامي جدا، والذي يليق بجنازة فنية سابقة على جنازتها، جنازة درامية مصنوعة بذات شاهين الذي أراد أن يخضع بريق النجمة لمصريّتها المصنوعة؟ فماذا فعل المكياج بالحزن، وماذا فعلت الدراما بروحٍ تعذّبت وغنّت هناك، مساحيق طيبة، وسينما تسعى وراء بريق نجمةٍ ساعة أن كانت الروح تسعى إلى زوالها؟ هل كان دخول يوسف شاهين إلى ساحة أحزان داليدا في بداية عقدها السادس بمثابة نهايةٍ حزينةٍ أخرى عجّلت بأحزانها، أم تلك مصادفاتٌ دراميةٌ تحدُث في السينما وعالم الفن وحده ونراها في عيون ضرّابات الودع، أم أن القرار المؤلم كان يعمل داخل الذات من سنوات، سنوات فقدها أحبّتها، وما القرار سوى ديكور حزين لتلك النهاية؟ وهل أحزان الفنان داخل ذاته غامضة وصعب توقعها في زحام هالة المجد، والعالم أشرس مما نتصوّر بكثير وأقسى؟ لماذا يمشي السحر مع المنتحر، أي منتحر، يمشي معه، ويمشي معنا، بعدما انقطعت الدهشة عنه، وما زالت الدهشة تصيبنا نحن من دون أن نمسك ذلك السبب، أو تلك الأسباب؟
هل لكلّ انتحار سرٌّ غامض يصعُب الإمساك به رغم كامل وجاهة الأسباب المعلنة؟ وكأنّه سرّ ذاتنا الخفية حتى عنّا، سر يعمل فينا كلّ يوم من دون أن نراه، ومن دون أن يفرح معنا بالمجد أو المال أو الحب أو الغناء.