خمس دقائق لا تكفي
استطاعت تلك الشاحنة العملاقة التي وقفت بجوار سور أقدم مستشفيات قطاع غزة أن توقظ مخاوفي كلها، وتثير رعبي مجدّداً من ذلك المكان، فقد وقفت بجوار سور مستشفى ناصر، أقدم مستشفيات القطاع، والذي يقع إلى الغرب من مخيم خانيونس للاجئين، وأنشئ في 1957 إبّان فترة الإدارة المصرية للقطاع، وفوق أنقاض ثكنات عسكرية بريطانية، أقيمت في أربعينيات القرن الماضي من أجل الحجر الصحّي، وعلاج أمراض الحمّى عند الجنود البريطانيين.
اتخذ مستشفى ناصر اسمه من اسم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وكان، حتّى عهد قريب، قديم البناء، مُقبِضاً للنفس حين تراه من بعيد، وتقع على مقربة منه مقبرةٌ ترعبك أكثر، كما أن هناك غرفة مُقبِضة أكثر من منظر المستشفى، وعرفت باسم غرفة الموتى، ولم أكتشف أنّها ثلّاجة لحفظ جثث الموتى، إلّا حين كبرت ووعيت، أمّا في طفولتي فقد كانت هناك رحلة عذاب مريرة لي كلّ يوم، لأنّني كنت، في البداية، أضطر للمرور بجوار سور غرفة الموتى الذين يستيقظون ليلاً كما روّج الأطفال أمثالي. وتبدأ وهذه الرحلة من بوابة مدرستي المقابلة للمستشفى مروراً بسور المشفى حتّى أبتعد قليلاً عن حدود المخيم، وأصبح داخل حدود المدينة ذاتها، وأقطع الطريق باتجاه بيتنا، حتّى أصبحت أقطع طرقاً طويلة ملتفّة لأبتعد عنها.
اقترن هذا المكان بالخوف والرعب بداخلي في مرحلة طفولتي، وفي أثناء دراستي في المرحلة الابتدائية، وزاد على ذلك خوفي من قبور متجاورة مطمورة لا يظهر منها سوى أطراف من شواهدها، وتقع بجوار السور مباشرة، وقد روّج أنّها لجنود مصريين مجهولين وقعوا على أرض المدينة، وجرى دفنهم ثمّ تكريمهم من دون نقل رفاتهم بقبور مطليّة بطلاءٍ أبيضَ، وبشواهدَ كتبت عليها بخطّ جميل بعض أبيات الشعر والآيات القرآنية، ولكن ذلك لم يمنع أن تكتمل حلقة الرعب اليومية بالنسبة لطفلة في عمري من مستشفى قديم متهالك ملحق به غرفة موتى يستيقظون ليلاً، ويلتهمون أكباد الصغار، إلى مقبرة قريبة وقبور عشوائية يدور حولها الكثير من الروايات.
حتّى أيام قليلة، كنت أعتقد أن حلقة الرعب قد اكتملت قبل أن أرى صورة الشاحنة العملاقة التي تقف بجوار سور المستشفى الذي يطلّ على المقبرة، وحيث توقّفت لأنّ لا أحدَ كان يعرف مصير من في داخلها، وأين سينتهي بهم المطاف، والحقيقة المرعبة أنّ بداخلها 89 جثة مشوّهة ومتحلّلة سلّمها الاحتلال الإسرائيلي إلى وزارة الصحّة، ولا يُعرَف عن أصحابها أيّ معلومات مثل أسمائهم ولا ظروف موتهم وتاريخه.
كانت هيئة الشاحنة مُقبِضة من خلال الشاشة أكثر من هيئة غرفة الموتى التي أخافتني سنوات عديدة، وجعلت الكوابيس لاحقتني، وأنا لا أتخيّل كيف يحفظ الموتى في ثلاجات؟ ولماذا يحفظون فيها وأنا أرى وأتابع حالات موت طبيعية تحدث حولي، فيسارع ذوو الميّت لدفنه، ويقومون بطقوس صامتة وحزينة تحمل صور التكريم كلّها، وأوّلها وجود أهل الميّت جميعاً، وإرسال من يأتي بالمتأخّر منهم على وجه السرعة.
ظلّت تلك الشاحنة وقتاً طويلاً واقفةً بجوار السور، فيما تجمّع حولها كثيرون من الأهالي الذين فقدوا الآباء والأبناء ولديهم أمل ما، ما يجعلكَ تشعر بطعنةٍ في قلبك وأنت تتخيّل شخصاً يشعر بالراحة لمُجرَّد أنّه قد عرف مصير فقيده الذي انقطعت أخباره منذ شهور، وهذا المصير هو جثّة متحلّلة في شاحنة مغلقة.
لفرط سذاجتك، تعتقد أنّ حلقة رعب طفولتك قد اكتملت بنضجك، حتّى ترى هذا المشهد الذي تقشعر له الأبدان، ويقضّ المضاجع، فهناك شاحنة تحمل بقايا بشر كانوا مثلك يأكلون ويشربون، ويحلمون ويتمنّون، ثمّ أصبحوا مُجرَّد أرقام، وقد انتهى ما يخصهم خلال خمس دقائق فقط، فدفنوا في مقبرة جماعية بلا ورد ولا حضن ولا كلمة وداع، ممّا يجعلك تمقت هذا العالم كلّه، الذي يختصر حياة 89 إنساناً في خمس دقائق لا أكثر.