خشيت عليكِ منهم
ترهق روحيَ الكتابةُ عن الراحلين.. أحاول أن أبتعد كثيراً عن هذه المنطقة الموجعة في الكتابة، لولا أنّها ضرورية أحياناً. أمّا إن كانوا من الشُعراء فالوجع يكون أقلّ قليلاً، ذلك أنّ شعوري بالرحيل يبقى في منطقة مُحايدة.. قصائدهم الحاضرة دائماً في الوجدان تمنحهم نوعاً من البقاء الكبير، وتجعل من مسألة رحيلهم مسألةً شخصيةً وحسب، تبعاً لنوع العلاقة وعُمقها. لكنّ الشعور الآني بثقل الخبر يحفر مجراه في تلافيف الروح، فمهما كان الموت قريباً منّا جميعاً إلا أنّنا نُفاجأ عندما نسمعه مقروناً باسم نعرفه.
هكذا شعرت وأنا أتلقّى خبرَ رحيل الشاعر الكبير الأمير بدر بن عبد المحسن، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، الذي لم أعرفه كثيراً في المستوى الشخصي، ولم ألتقِ به وأجلس معه في حديث إلا مرّة، بالإضافة إلى حضوري بعض أمسياته الشِعْرية في الكويت، لكنّ تقاطعي مع تجربته الشِعْرية كان عميقاً جداً، ومؤثّراً في مسيرتي الصحافية تحديداً. ففي بداياتي، كتبت مقالاً عن ديوانه الأوّل؛ "ما ينقش العصفور في تمرة العذق" (ط1، 1989)، والذي كان حدثاً استثنائياً في أوج ظاهرة مجلّات الشِعْر الشعبي وحضورها الكبير في حياتنا الثقافية. وكان بدر بن عبد المحسن هو النجم الأول لأغلفة تلك المجلّات والمروّج كلّ مطبوعة من هذا النوع يظهر فيها، عبر لقاء صحافي أو قصيدة جديدة أو مُجرّد خبر صحافي، فما بالكم وقد صدر ديوانه الأوّل والمنتظر من قرائه ومعجبيه كلّهم؟
بدا ديوان "ما ينقش العصفور في تمرة العذق" جديداً في شكل طباعته وغريباً في غلافه عن السائد من دواوين للشِعْر الشعبي آنذاك، ثمّ إنّ لوحات الشاعر التشكيلية التي زيّن بها الديوان من الداخل كانت إضافة غير متوقعة. أمّا القصائد فمعظمها معروف ومشهور.
عندما كُلّفت بقراءة الكتاب قراءةً نقديةً والكتابة عنه، ربما كانت هي المرّة الأولى بالنسبة لي التي أكتب فيها عن ديوان شِعْر شعبي، فتحمّست لإعمال أدواتي النقدية الطازجة كلّها. كنتُ قد تخرّجت في جامعة الكويت، قبل فترة قصيرة، مجازةً في الأدب العربي، وكان النقد الأدبي هو تخصّصي الأثير الذي قادني إلى الصحافة الثقافية، وهكذا كتبت المقال بلغة نقدية قاسية جداً، لم أتردّد فيها حتّى عن انتقاد لوحات الشاعر التشكيلية. قبلها كنت قد حضرت أمسية الشاعر الكبرى، وهي الأولى له على ما أذكر في الكويت، وكانت تغطيتي الصحافية لتلك الأمسية حديث الجميع، حتّى إنّه تواصل معي بعدها شاكراً وممتنّاً. لكنّ المقال النقدي كان مختلفاً جداً بالنسبة لي وله، وللقرّاء. وهو ما تسبّب بإثارة زوبعة كبيرة في شارع الصحافة في الكويت، تمدّدت بسرعة إلى خارج الكويت، ونتج عنها إجراءات مزعجة لا مجال للحديث عنها الآن.
فوجئْتُ وفوجئَتِ الصحيفة التي كنت أعمل فيها بكمّ الردود الغاضبة التي وصلتنا على المقال، الذي أزعج كلّ معجبي الشاعر وقرائه كما يبدو. ورغم أنّ الصحيفة نشرت معظم ما وصل إليها من تلك الردود إلا أنّ كثيرين فضّلوا أن ينشروا مقالاتهم في مطبوعات أخرى. وهكذا، وجدتُني حديث الجميع بغضب غير مسبوق، بل إنّني بدأت أتلقى اتصالات حانقة من قراء كثيرين.
ورغم أنّني لم أقصد هذا، إلا أنّ اتهام البعض لي بأنّني صعدت على شهرة بدر بن عبد المحسن الطاغية، في بداياتي الصحافية، كان صحيحاً إلى حدّ ما. فكثيرون عرفوا اسمي من خلال ذلك المقال الذي لاحقني طويلاً، وما زال يُلاحقني حتّى بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود من الزمن على نشره. فقبل أيام من رحيل الشاعر، رحمه الله، تواصل معي زميل يسألني إن كان المقال موجوداً لدي أم لا؟
ماذا كانت ردّة فعل الشاعر نفسه؟ في لقاء تلفزيوني أجري معه في تلفزيون الكويت؟... سأله مُقدّم البرنامج عن المقال وعني، فدافع عني وعن حقّي في النقد بل إنّه امتدحني كثيراً يومها، رغم تحفّظه على بعض أفكار المقال التي لا تتعلق بالجانب الشِعْري. عندما التقيته لاحقاً، وبعد سنوات، كان ما زال يتذكّر المقال، وكان هو موضوع الحديث، فقال ضاحكاً: خشيت عليك منهم.
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.