خدعوك فقالوا: كرة القدم أفيون الشعوب
قد يدفعك الاستسهال إلى التعاطي مع القول الشائع إن "كرة القدم أفيون الشعوب" باعتبارها حقيقةً واقعة، خصوصًا مع كثرة استخدامها نوعًا من الكليشيهات المعلّبة، مثل مقولة كارل ماركس الشهيرة "الدين أفيون الشعوب"، والتي سقطت أمام امتحانات التاريخ والواقع.
لا كرة القدم، ولا الدين، مما يخدر الشعوب وينسيها تاريخها وجغرافيتها وقيمها وأخلاقياتها، بل يبدو عكس ذلك هو الصحيح، بالنظر إلى الواقع المعاش.
أثبتت كرة القدم أنها ليست ذلك النشاط الإنساني الذي يفقد الناس وعيهم ويعزلهم عن قضاياهم الحقيقية، أو يبدّل قناعاتهم ومعتقداتهم وانتماءاتهم، بل هي في الغالب باتت مجالًا حيويًا لتذكر ما يراد منهم نسيانه، والتمسّك بما يتعرضون لحرب ثقافية مجنونة لكي يتخلوا ويتنازلوا عنه.
هي أيضًا، ربما باتت من المجالات النادرة التي يمكن من خلالها دحر وإسقاط النظريات الاستعلائية المحنطّة عن تفوّق الشمال على الجنوب، وتميّز الغرب عن الشرق، لتنضم إلى مجال العلم والأدب في تكوين جبهةٍ حضاريةٍ تتكسر عليها نزعاتٌ فوقيةٌ وعنصرية، تعتمد الغرب نموذجًا رائدًا.
ما جرى في العاصمة القطرية الدوحة طوال أسابيع ثلاثة، هي عمر بطولة العرب في كرة القدم، ينهض دليلًا إضافيًا على أن كرة القدم ليست ذلك المخدّر الفعّال الذي يستخدمه السياسيون لتنويم الشعوب أو تغييبها، أو اختطافها بعيدًا عن همومها وشؤونها الوجودية، بل هي تلك المادّة المنعشة للروح والذاكرة، والمرمّمة للذات المكسورة، أو المستهدفة بالكسر.
قدّمت قطر العربية منتجًا رياضيًا يضاهي، بل ويتفوّق على المنجز الرياضي للعالم الذي يسمّي نفسه الأول، المتقدّم، الرائد، النموذج، وأبهرت المتربّصين قبل المحبين، إن على مستوى البنية الإنشائية الجبارة، من ملاعب ومرافق وطرق تنقل، أو على مستوى الإدارة والتنظيم والتعامل السلس المتحضّر مع مئات الآلاف من الجماهير وعشرات الوفود والبعثات الرياضية، وأعطت الدليل على أن كأس العالم المقبلة، نهاية العام 2022 ستكون استثنائية وتاريخية بكل المقاييس.
غير أن ما يجب التوقف عنده هنا هو الجمهور، ذلك الإنسان العربي المحاصر بمناخٍ من الاستقطاب السياسي العربي، والمطارَد بأجنداتٍ ومشاريع تريد منه ابتلاع ما لا يطيقه أو يناسبه، والمحشور بين فكّي الاستبداد والتطبيع، معًا.
هذا الجمهور تمرّد على كل ما هو مفروضٌ عليه وأسقطه، وأظهر أن يبقى عصيًا على الانسحاق والذوبان في مراجل سياسية عملاقة، تغذّيها بالوقود جهاتٌ دولية، تتخذ الرياضة ممرًا للعب في الثقافة القومية والذاكرة الجمعية.
وعلى الرغم من أن هذه البطولة العربية أقيمت من دون مسمّاها الأصلي، كأس فلسطين، إلا أن المواطن العربي، جمهورًا ولاعبين ومدرّبين، جعلها "بطولة من أجل فلسطين" كما لم تكن من قبل، وأثبت مقدرةً فريدةً على تحويل "الأفيون المخدّر"، بحسب المقولة الشائعة، إلى منبّه ومحفز شديد القوة لاستعادة الذاكرة القومية وحمايتها من أي ملوّثات، فكانت فلسطين حاضرةً في هتافات المدرّجات وأعلامها، كما كانت كذلك في تصريحات المنتصرين والفائزين.
ليست المسألة في ملاعب الدوحة فقط، بل في نقاطٍ أخرى حول العالم، تقوم فيها كرة القدم بوظيفة الإحياء والاستعادة ومقاومة مشاريع محو الذاكرة والتحايل على التاريخ، كما يجري في ملاعب اسكتلندا مثلًا، التي تتحوّل ميادين للهتاف من أجل فلسطين ضد الاحتلال، وكما في محاولاتٍ فرديةٍ من آحاد الجمهور، ترفع علم فلسطين، حتى لو كان الثمن حرية أصحابها، كما حدث مع الشاب عز منير، المسجون في مصر، عقابًا على رفعه العلم الفلسطيني في بطولة أمم أفريقيا أخيرا في الملاعب المصرية.
في ذلك كله، تبقى كرة القدم مجالًا حيويًا لحضور الجماهير، قوّة موحدة، تقدّم إبداعًا لا يقل روعةً عما يأتي به اللاعبون، فتهتف لما تراه عادلًا ومستحقًا، وتنتصر لفلسطين ضد الاحتلال، وللإنسانية ضد عنصرية اللون والعرق، وللحرية ضد الاستبداد، من دون أن تتعرّض لاعتداءاتٍ بقنابل الغاز وطلقات الخرطوش، أو هكذا يفترض في البلد الذي يحترم نفسه.. أو تواجه بطشًا وقمعًا همجيًا في الأماكن التي لا تعرف احترامًا للإنسان وحقوقه في التعبير.