حين تنتصر الرمزية الفلسطينية
بات سقوط الحكومة الإسرائيلية الائتلافية، المكونة من ثمانية أحزاب مختلفة المرجعيات الأيديولوجية، أقرب من أي وقت مضى؛ فخلال الأسابيع الماضية، تلقت ضربتين موجعتين. أولاهما حين استقالت عضو الائتلاف الحاكم عن حزب يمينا، عيديت سليمان، من الحكومة وقرّرت الانضمام إلى حزب الليكود، على أثر سماح الحكومة بإدخال الخبز المختمر إلى المستشفيات الحكومية خلال عيد الفصح، وهو ما يخالف أحكام الشريعة اليهودية التي تتمسّك بها سليمان بشدة، والتي دفعتها إلى الانسحاب من الحكومة، ليتقلص حينها أعضاء الائتلاف إلى 60 عضوا فحسب. الضربة الثانية، وهي الأقوى، وغالبا ما ستكون المسمار الأخير في نعش هذه الحكومة، حدثت حين أعلنت غيداء زعبي، وهي من فلسطينيي 48 وعضو الائتلاف عن حركة ميرتس، في بيان لها، عن انسحابها من الائتلاف نتيجة جملة من الاعتراضات على الحكومة الإسرائيلية وتصرّفاتها، أهمها ما قامت به الشرطة الإسرائيلية في جنازة الإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، يوم تشييع جنازتها، بعد أن قتلت على يد قناص إسرائيلي في أثناء تغطيتها محاولات اقتحام قوات جيش الاحتلال مدينة جنين الفلسطينية.
يمتلئ مشهد الأيام الماضية، منذ محاولة اقتحام جنين، مرورا بمقتل شيرين أبو عاقلة والاعتداء على جنازتها، وصولا إلى استقالة غيداء زعبي وزيادة احتمالات سقوط الحكومة الإسرائيلية، برمزيات عدة. .. وجنين هي الرمزية الأولى والأقدم، فلطالما اعتبرت إسرائيل منطقة جنين، من بين مناطق الضفة الغربية، كلها رأس الحربة للإرهاب والفوضى، وفقا للمصطلح الإسرائيلي، في الضفة الغربية؛ ثمّة أسباب كثيرة جعلت من هذه البقعة الصغيرة مساحة، الكبيرة تاريخا وحاضرا، رمزا للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي من بين مدن الضفة؛ تلك البقعة التي تقع في أقصى شمالي الضفة، بمساحة تصل إلى 583 كم2.
خلال العصر الحديث، كان لجنين تاريخ مشرف طويل، هو الذي بوأها احتلال هذه المكانة الرمزية؛ فمنذ حملات نابليون في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، كانت جنين درّة تاج المدن الفلسطينية في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وسبّبت صداعا كبيرا للفرنسيين، حتى كاد نابليون أن يدمّر المدينة تماما، وهي التي وقفت كذلك مع سائر مدن فلسطين ضد الاحتلال البريطاني أيام ثورة 1936، وبذل البريطانيون جهدا بالغا للقضاء على المقاومة الفلسطينية في المدينة في ذلك الوقت، حينما كان يقودها الشيخ عز الدين القسام، حتى سقوطه شهيدا عام 1939 في بلدية يعبد التابعة لمدينة جنين.
ما زالت جنين شوكة في حلق إسرائيل؛ فمنها ينطلق أكثر المقاومين لتنفيذ عملياتهم ضد الاحتلال في الداخل الفلسطيني
لم ينته تاريخ المدينة هنا، فمنذ اللحظات الأولى للإعلان عن قيام دولة الاحتلال، كانت جنين في مقدمة المدن الفلسطينية التي تقاوم المحتل، وعانى الاحتلال كثيرا في عدة معارك مريرة خاضها في جنين عام 1948، لم يستطع بسببها، ونتيجة شراسة مقاومة أهلها، أن يستمر في احتلال المدينة. وخلال الانتفاضة الأولى 1987، والثانية 2000، وخلال معركة جنين في 2002، أثبتت جنين جدارتها في مقاومة الاحتلال، حتى أصبحت تعرف بين أبنائها باسم "جنين غراد"، تشبيها لها بمدينة ستالينغراد الروسية التي صمدت ستة أشهر في مواجهة الجيش الألماني في أثناء الحرب العالمية الثانية، حتى تمكّنت لاحقا من تحقيق الانتصار الذي كان له تأثيره الكبير على مجريات هذه الحرب. وما زالت جنين شوكة في حلق إسرائيل؛ فمنها ينطلق أكثر المقاومين لتنفيذ عملياتهم ضد الاحتلال في الداخل الفلسطيني، يساعدها في ذلك عدم وجود تجمّعات استيطانية إسرائيلية أو قواعد لجيش الاحتلال داخلها، ما يقلل من السيطرة الاستخباراتية الإسرائيلية على المدينة، يضاف إلى ذلك أنها أكثر مدن الضفة التي تشهد تعاونا كبيرا للغاية بين فصائل المقاومة الفلسطينية على اختلاف توجهاتها.
ارتبطت الرمزية الثانية بجريمة إسرائيل، حين صوّب أحد قناصة جيش الاحتلال بندقيته إلى رأس شيرين أبو عاقلة وهي تغطي محاولات جيش الاحتلال اقتحام مدينة جنين. ولم تكتف إسرائيل بذلك، بل هاجمت لاحقا جنازة أبو عاقلة، وأسقطت، أو كادت تسقط، التابوت الذي احتضن جثمانها. وحاول الاحتلال عبثا التنصّل من هذه الجريمة التي أضرت به في اتجاهين؛ أولهما أنها أضافت إلى خسائره الإعلامية خسارة جديدة على المستوى العالمي؛ حتى أصبح مشاهير كثيرون في العالم يتداولون جريمتي إسرائيل بحق شيرين؛ فقد كتبت الممثلة الأميركية سوزان ساراندون، على صفحتها، أن قناصا إسرائيليا قتل شيرين وهي تلبس زي الصحافة وتضع خوذة على رأسها. وتساءلت: حتى متى سنظل صامتين و"حلفاؤنا" يقتلون الصحافيين. وبعد الهجوم على الجنازة كتبت مرة أخرى تنتقد العنف الإسرائيلي بقولها "من سيرفض عنف القوات الإسرائيلية ضد الجنازة سوف يصوّر كارها لإسرائيل، ومعاديا للسامية". وفي السياق نفسه، كتب لاعب الكرة الإنجليزي السابق غاري لينيكر يصف ما فعلته إسرائيل بأنه مريع. وهذه الشهادات ما هي إلا نماذج لما تتعرّض له إسرائيل في الأعوام الأخيرة من خسارة في الرأي العام العالمي، وهي تعكس كيف كان قتل شيرين أبو عاقلة فضيحةً بالنسبة لإسرائيل، من حيث أرادت إخفاء جرائمها بقتل الحقيقة.
سيظل مشهد قتل شيرين أبو عاقلة والاعتداء الهمجي على جنازتها محفورا في مسار الصراع العربي الإسرائيلي
ولعل هذه الخسارة هي التي دفعت هيئة تحرير صحيفة هآرتس، بعد يوم من هذه الجريمة، إلى حث الحكومة الإسرائيلية للضغط على الفلسطينيين من أجل قبول تشكيل لجنة تحقيق مشتركة. ولم يكن ينقص الصحيفة حينها إلا أن تعلن أن هدف هذه الدعوة طمس الحقيقة.
لم تكن هذه خسارة إسرائيل الوحيدة؛ فبعد عدة أيام من الاعتداء على جنازة شيرين أبو عاقلة، حتى أوشك التابوت الذي احتضن جثمانها على السقوط، ها هي الحكومة الإسرائيلية على وشك السقوط الحقيقي، بعد أن أعلنت غيداء ريناوي زعبي عن استقالتها نتيجة الاعتداء الهمجي للشرطة الإسرائيلية على الجنازة، ليصبح سقوط الحكومة حتميا إن لم تنجح محاولات نيتسان هورفيتس، رئيس حركة ميرتس، وقادة الائتلاف، بينيت ولبيد، في ثنيها عن موقفها، أو إقناعها على الأقل بعدم التصويت لصالح سحب الثقة، حتى لا يعود اليمين الإسرائيلي المعارض بقيادة نتنياهو إلى السلطة.
سيظل مشهد قتل شيرين أبو عاقلة والاعتداء الهمجي على جنازتها محفورا في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى الرغم من رمزية تلك اللحظة، وما تعكسه من حالة ضعف عربي وسقوط على المستوى الرسمي، إلا أنه في المقابل يمكن القول إن شيرين كانت مصدر إفساد لراحة الاحتلال في حياتها، ومصدر زعزعة لاستقراره بعد مماتها، وكأننا أمام مشهد جديد من مشاهد مقاومة الاحتلال تنتصر فيه الرمزية الفلسطينية، فلن تسقط جنين، ولن تتوقف شيرين عن مطاردته في حياتها ومماتها.