حينما يلتقي العنف الثقافي بالعنف البوليسي في فرنسا
بعد مقتل الشاب الفرنسي من أصول جزائرية نائل، تحرّكت موجة اضطراب واسعة النطاق غطت كبرى المدن الفرنسية، مصحوبة بالحرق والنهب ومداهمة المحلات الخاصّة والعامة، قادها شباب غاضبون من أصول مغاربية وأفريقية، ما اضطرّ السلطات الفرنسية إلى نشر ما يربو على أربعين ألفاً من رجال الأمن في باريس وضواحيها وبقية المدن الكبرى التي ضربتها الاحتجاجات.
انقشعت هذه الموجة العنيفة مثلما انقشعت موجات سابقة مشابهة. ومع ذلك، تبقى الأسئلة الكبرى عالقة، وتنتظر الإجابات المعمّقة والمعالجة الجدّية من الفرنسيين قبل غيرهم، فما الذي حوّل جريمة قتل فردي ارتكبها رجل أمن فرنسي ضد هذا الشاب، كان يمكن أن تكون مجرّد حادث جنائي عابر، إلى حالة غضب عارم تحوّل إلى ما يشبه الانتفاضة؟ ما الذي يجعل فرنسا عرضة لمثل هذه الهزّات الاجتماعية بعد كل أربع أو خمس سنوات يحرّكها في الغالب الشبان الفرنسيون الغاضبون؟ ما الذي يثير هذا الديناميت المتفجّر في وجه الدولة الفرنسية التي تعتبر نفسها صاحبة الريادة في الحقوق والحريات؟
في الوقت الذي كان الدخان يتصاعد من قلب المدن والأحياء الفرنسية، كانت تتصاعد معه تشكيات الشبّان الحارقة وصرخاتهم الغاضبة، مثلما كانت على الجهة المقابلة تتكرّر السرديات المهيمنة والأجوبة النمطية الجاهزة على ألسنة (وأقلام) النخبة الفرنسية من سياسيين وإعلاميين وخبراء وغيرهم، عن قضايا الهجرة والهوية والانتماء وما شابه ذلك، وكأننا هنا إزاء حوار طرشان في عوالم متباعدة ومتقابلة لا يجمع بينها سوى الوجود في جغرافية المكان الموحّد لا غير.
للفرنسيين قصتهم الخاصة والمعروفة للائكية لا تضاهيها أي قصة علمنة أخرى في العالم
يقول الشباب إنهم يعانون من الاضطهاد والتمييز الممنهج (الحُقرة بلغة المغاربة)، ولا يحظون بالحد الأدنى من الاحترام والاعتراف من دولتهم، وهم إلى جانب ذلك يخضعون لعقاب بوليسي في مدنهم وأحيائهم من دون ضوابط أو روادع. في مقابل ذلك، تردّ النخبة الفرنسية بأن جوهر المشكل يعود إلى مسألتي الهوية والانتماء، وما تسمّى الانعزالية الثقافية، وهي مقاربة تكاد تكون موحّدة بين يمين فرنسا ويسارها تقريبا. يصادر اليمين على المطلوب ويتحصّن خلف شعار "فرنسا للفرنسيين”، ليخلُص إلى أن هؤلاء الشباب مجرّد مهاجرين يتموضعون خارج حدود الهوية الفرنسية أصلا. أما اليسار المتقاطع مع المؤسّسة الرسمية فيعزو الأمر إلى عدم التشبع بالثقافة الجمهورية والقيم اللائكية، بتأثير الجذور الاجتماعية وضغط المحيط العائلي التقليدي. وللفرنسيين قصتهم الخاصة والمعروفة للائكية لا تضاهيها أي قصة علمنة أخرى في العالم، إنها أشبه ما يكون بدين وضعي جديد ذي منزعٍ إلحادي، تقوم على تقديس العقل وإيديولوجيا التقدّم، واحتقار الأديان.
من الواضح أنه في سياق هذه الأجواء الملتهبة، والجدل الصاخب، يبدو من الصعب الوصول إلى أرضية مشتركة، حيث تطغى أوهام كثيرة، وتغيب معها حقائق كثيرة. ويتم تبعا لذلك الركون لمقدّمات عديدة خاطئة تؤدّي بالضرورة إلى نتائج خاطئة ومشوّهة. ولعل أولى هذه المقدّمات الخاطئة التي يرتكز عليها الطرف الفرنسي ادّعاء أن هؤلاء الشباب الغاضبين والناقمين هم مهاجرون، بينما الحقيقة الصلبة تقول إنهم فرنسيون من أصول مغاربية وأفريقية، فرنسيون في ثقافتهم ولغتهم وتعليمهم ومصادر تكوينهم ومخيالهم الجمعي وفي كل شيء، وليس لهم من الانتماء الأصلي سوى سُمرة البشرة أو سوادها لا غير. وبالتالي، تذرّع الفرنسيين بمقولة الهجرة والانتماء وما شابه ذلك هو تهرّبٌ متعمّدٌ من تحمّل المسؤولية عن شبابهم المحتقن وإلقاء اللائمة على الآخرين، كما أن مطالبة هذا الشباب بإثبات الانتماء ضرب من "الهرطقة السياسية"، فما معنى أن تستحثّ شابا فرنسيا من الجيل الثالث أو الرابع، ولم يعرف غير فرنسا موطنا وثقافة، بإثبات شهادة الانتماء والاندماج؟
ما نراه في حقيقة الأمر لا يعبّر عن فشل في اندماج هذه الفئات الغاضبة على نحو ما تروج السردية الرسمية، بقدر ما يعبّر عن فشل حقيقي لنظرية الاندماج لتي تتشبث بها النخبة الفرنسية، والتي تحوّلت بعامل الوقت إلى ما يشبه العقيدة الرسمية للدولة.
يرى الشباب أن الاندماج يعني، بدرجة أولى، المساواة في حظوظ التعليم والشغل والسكن والتكوين والخدمات كبقية أقرانهم من الشباب الفرنسيين (الأصليين). أما عند الطرف الفرنسي فهو لا يعني شيئا سوى وصفة جاهزة من الاشتراطات الثقافية الطويلة، ظلّت ترفعها فرنسا في وجه هذا الشباب والأقلية المسلمة على وجه العموم، وهي عند بعضٍ من اليمين واليسار تصل إلى حد مطالبة المسلمين بالامتناع عن أكل اللحوم الحلال والذهاب إلى المساجد وصوم رمضان، ثم قبول أكل لحم الخنزير وشرب الخمر. وإذا لم يفعلوا ذلك، فمشكوك في انتمائهم ونيل صفة الاندماج. بلغة أخرى، المسلم الوحيد المندمج والناجح بمنظار الفرنسيين هو الذي لم يستبقِ شيئا من إسلامه وعروبته (إن كان من أصولٍ عربية).
نمط جديد من العنصرية بصدد التشكّل في أوروبا عامة، وفي فرنسا على وجه الخصوص، يمكن تسميته العنصرية الثقافوية
تمارس فرنسا ضغطا نفسيا وثقافيا هائلا على أقليّاتها المسلمة من أصول مغاربية وأفريقية لا نظير له في أوروبا، وهو ضغط يرتقي إلى مستوى العنف الثقافي الممنهج، بموازاة ضبط أمني بالغ الشراسة، فالحجاب ممنوع والمساجد مقيّدة، وكل مظاهر التعبير الإسلامي محاصرة وتشتغل خارج المنتظم الرسمي بما يشبه السوق السوداء، ولا نتحدّث هنا عن ضعف التمثيل السياسي للفرنسيين المغاربة والأفارقة، رغم تزايد أعدادهم، فتصوّر وجود رئيس وزراء من أصول مهاجرة كما هو في بريطانيا، يبدو من قبيل المستحيلات السبع في بلد يدّعي كونية المساواة الحقوق. كثيرا ما يحاجج الفرنسيون بأنه لا يوجد شيء اسمُه أقلية أو أكثرية أو فرنسيون وأفارقة ومغاربة، بل هناك مواطنون فرنسيون بداية ونهاية، ولكن هذه كذبة كبيرة لا وجود لها إلا في رؤوس النخب الفرنسية ووسائل الإعلام لا غير. ودليل ذلك أن السلّم الفرنسي لا يتيح للأقلية المسلمة الصعود سوى بضع درجاته الدنيا لا غير، وإذا صادف أن صعدت شخصيةٌ ما ففي الغالب تكون معادية لأصولها الثقافية أكثر من اليمين الفرنسي نفسه.
تعيش فرنسا هوّةً صارخةً بين النظرية والتطبيق، وبين مقولات الجمهورية وواقع الجمهورية. النظرية التي تبشر بالحرية والمساواة، فيما يفيض الواقع بكل أشكال التمييز والاستبعاد. إذا كان الشاب اسمه محمد أو علي أو خالد، وإذا كانت الشابة اسمها خديجة أو حليمة أو فاطمة، فمن العسير عليه أو عليها العثور على وظيفة محترمة، أو نيل الاعتراف الكامل بالمواطنة. يقرأ الشباب الفرنسي عن عظمة الجمهورية وعلو كعبها وسمو شعاراتها في المدرسة، ولكنه بمجرد أن يخرج من أسوارها مساءً، يرى في محيطه كل أنواع التهميش والحرمان. تطالب فرنسا أقليّاتها المغاربية والأفريقية بالاندماج، ولكنها تذكّرها كل يوم وليلة بأنها جسم دخيل وغريب عن المجتمع الفرنسي، بل لا تكفّ عن تنميطها وشيطنتها في وسائل الإعلام والخطاب الرسمي، من الحديث عن الانفصال الثقافي والانعزالية إلى الإرهاب والتطرّف، إلى غير ذلك من قائمة الاتهام. ومع صعود أحزاب اليمين المتطرّف أصبح خطاب الإسلاموفوبيا يسري في وسائل الإعلام، ويجري على ألسنة الساسة من دون الشعور بالحرج أو الخجل. حينما يشاهد المرء بعض القنوات الفرنسية أو يستمع لبعض الإعلاميين والساسة الفرنسيين يتحدّثون عن العرب والأفارقة يشعر بالغثيان ودوار في الرأس من حجم الاستعلاء والغرور الذي يطبع خطابهم.
فرنسا من بين الدول الإمبراطورية القليلة التي تجد صعوبة سياسية وفكرية ونفسية في التخلي عن نزعتها الإمبراطورية وتعديل وضعها على ضوء وزنها ومحيطها. الحقيقة أن فرنسا اليوم أقرب ما تكون إلى القوة الاقليمية، وفي أحسن حالاتها ما بين الإقليمية والدولية، ولكنها مع ذلك تتصرّف كقوة عظمى وسيدة البرّ والبحر، فهي تعيش غيبوبة عن الواقع، وكلما تعقّدت أوضاعها الداخلية والخارجية من حولها ازدادت عنادا وشرنقة في خطابها ومثالياتها المجرّدة.
فرنسا مريضة بتعصبّها وعنجهيتها وغرورها، وتحتاج جرعة من الدواء الإسلامي، التحلّي بأدب التعارف وخصلة التواضع
هناك نمط جديد من العنصرية بصدد التشكّل في أوروبا عامة، وفي فرنسا على وجه الخصوص، يمكن تسميته العنصرية الثقافوية، فمع تغيّر المزاج العالمي لم يعد من الممكن اليوم إقامة تفاضل بين الشعوب على أساس الأعراق والألوان، ولكن حلّ محله خطاب تمييزي لا يتردّد في بناء خنادق بين الثقافات ومنظومات القيم، بزعم أن هناك ثقافات تنويرية رائدة مقابل ثقافات متخلفة ومنحطّة، وليس من تفسيرٍ لذلك سوى التشبث بهيمنة النموذج أو النماذج التفسيرية، والتي هي الحقيقة صورة أخرى لإرادة الهيمنة السياسية بالمعنى الواسع للكلمة، إنهم يروْن عالم الإسلام والعرب والأفارقة مجرّد موضوع صامت وماثل أمامهم يمكنهم إخضاعه لمقولاتهم وقوالبهم الجاهزة، بما يعطيهم الحقّ في تشخيص المشكلات على النحو الذين يريدون وتقديم الدواء الذي يرغبون فيه.
من هنا، يمكن القول إن أول خطوة تحتاج أن تقطعها فرنسا لمعالجة مشكلاتها التي صنعتها بيديها هي التخلّي عن نزعة الاستعلاء الثقافي والغرور السياسي، ومن ذلك اعتبار معركتها مع الإسلام أمّ معاركها الثقافية والتبشيرية. ما دامت تصرّ على صنع عدوٍّ وهمي في الداخل وفي مناطق نفوذها، فإنها ستظلّ تناطح الصخر، ولن تزيد إلا في إرهاق نفسها وتدمير مصالحها.
صرّح ماكرون مرّة بأن الإسلام يمرّ بأزمة كبيرة. ثم صرح وزير داخليته إن ما سمّاه الإسلام السنّي يمثل خطرا كبيرا على استقرار العالم، ولكن الواضح إن فرنسا مريضة بتعصبّها وعنجهيتها وغرورها، وتحتاج فعلا جرعة من الدواء الإسلامي، أي التحلّي بأدب التعارف وخصلة التواضع "يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم".