حينما يصبح الشعب ضحية كارثتين طبيعية وسياسية

26 سبتمبر 2023
+ الخط -

يقف العلماء أمام سؤال الكوارث الطبيعية موقف القادرين على تعيين حدود القول المجدي، وتمييزه عن القول الفارغ من أي مضمون، وغير القادر على تأسيس أي فعل، فعلى الرغم من عدم القدرة على التنبؤ بالكوارث بشكل دقيق، ومن عدم القدرة على وقفها وتفاديها، إلا أنه بوجود التقنيات الملائمة يمكن تشييد أبنية، وطرقات، وبنى تحتيّة، وجسور، وسدود، تستطيع الصمود أمامها والتخفيف من ضررها، بطرقٍ تتخطّى في جدواها تلك التقليدية والقديمة، أو التي تراكم إهمالها وعدم صيانتها، فلم تعد تجدي نفعًا، ولم تعد قادرةً على تأدية الوظائف التي أُنتجت من أجلها. 
والسؤال أعلاه ليس معرفيًا محضًا ولا ترفًا نظريًا، بل يصل إلى الممارسة الواقعية، لا سيما بعد هذا الكم من الكوارث التي تُنذرنا الطبيعة بها، والآخذة في الازدياد في منطقتنا. بما يعني أن سؤال الكارثة يتخطّى حدود المجتمع العلمي النخبوي الضيق، ويفرض نفسه على حيّز التربية والأخلاق والسلوك البشري العام، ومن خلف هذه كلها على حيّز السياسة، لأن إمكانية تفادي تدميرية الكوارث تحتاج بيئة تنتج علماء وتساعدهم على إنجاز مهامهم بأريحية وحرية، كما تحتاج إلى دعم مادي ومعنوي استثنائي، وتحتاج مؤازرة سياسية تنقل العمل من حيّز التخطيط والإنشاء إلى حيّز الممارسة الهادفة إلى حماية المجتمع وإيجاد فرص نجاة ناجعة، فهل دولنا مؤهلة للصمود أمام كوارث مدمّرة كهذه؟ وهل نحن في بيئة ملائمة لإنتاج العلماء ولدعمهم غير المشروط، في حين أن السلطة تتكثّف حول قلّة قليلة من الطبقة الحاكمة وحاشيتها، والتي تفوح من كثير منها شبهات الفساد، بالإضافة إلى تطبيقها القوانين باستنسابية، من دون أن ننسى أن السلطات فيها تعمل على نشر الأميّة والتفكير التقليدي العاقر، لأنه الطريقة الأسرع لازدياد سلطانها، بدل أن تعمل على تغذية التفكير العلمي والنقدي وتطويره، وما يرافقه من نشر تربية وطنية جديدة تأخذ بالحسبان تدريب الناس على ما يجب فعله أو الامتناع عنه في لحظات كارثية كهذه؟

تندرج نتائج كثيرة تحت مظلة ما يمكن للعلم والعلماء، وبدعم الدول، التعامل معه، بحيث يمكن العمل على تفادي بعض النتائج

والكلام لا يعني أن هناك إمكانية لتفادي الكوارث الطبيعية، خصوصًا التي تتخطّى في قوتها كل الخطوات الاستباقية التي يمكن القيام بها. بل ما نقوله إن هناك نتائج كثيرة تندرج تحت مظلة ما يمكن للعلم والعلماء، وبدعم الدول، التعامل معه، بحيث يمكن العمل على تفادي بعض النتائج والمساهمة في التقليل من حدّتها.
لقد شاهد العالم، على سبيل المثال، الفيديوهات التي انتشرت للزلزال الذي ضرب المغرب، الجمعة في 8 سبتمبر/ أيلول الحالي، إذ سرعان ما هرع الناس إلى الشوارع، في حين أن معرفة الحد الأدنى من قواعد السلوك والاستجابة المتعلقة بالزلازل تشير إلى ضرورة البقاء في الداخل والاحتماء في الزوايا، أو تحت الطاولات، أو قرب العواميد... وعدم تركها إلى الأماكن المفتوحة إلا لحظة توقف الاهتزاز، فالمسارعة إلى الخارج ستؤدّي إلى ازدياد الضحايا بسبب انهيار المباني وتداعيها وهبوط ركامها على الناس، وهو ما حدث بالفعل، فلو كان الناس متدرّبون ولديهم إلمام بالحد الأدنى بالثقافة المتعلقة بالسلوك خلال الكوارث لتقلّصت أعداد الضحايا. 
ومن ناحية ثانية، يطرح الكلام أعلاه مشكلة السياسة من أوسع أبوابها، إذ يشير إلى مشكلة التفاوت الإنمائي بين المدن والريف. وفي السياق، يؤكّد رئيس مصلحة الرصد الزلزالي في المغرب هاني لحسن أن الحكومة المغربية تشرف على تنفيذ قانون الأبنية المضادّة للزلازل، إلا أن الأمر يتكثّف في الحضر، وليس في القرى المغربية، والتي لم تقرّ الحكومة قانونًا مشابهًا متعلقًا بها. من هنا نفهم سبب كثافة عدد الضحايا في القرى، بما يتشابه مع نتائج الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية في شهر فبراير/ شباط الماضي.

الفساد يحوّل المباني والطرقات والبنى التحتية مشاريع مقابر جماعية عند أي طارئ، وهو ما تؤكّده نتائج العاصفة دانيال في ليبيا

وما يزيد الطين بلّة أن الفساد في هذه الدول يشكّل المرتع الفعلي والسبب المباشر لكارثية النتائج المتأتية عن الحوادث المماثلة، فحين يهيمن الفساد تضمحل شروط السلامة العامة وأمن المواطنين، لأن غرض الفساد تحقيق الربح السريع على حساب الجودة وسلامة المواطن وأمنه، كما أن الفساد يساهم في التراخي في تطبيق القوانين، فيحمي بعضه، وبالتالي يشرّع الطرق أمام الموت إذا ما ترافق مع الإهمال وقلّة الصيانة، فالفساد يحوّل كل المباني والطرقات والبنى التحتية مشاريع مقابر جماعية عند أي طارئ، وهو ما تؤكّده نتائج العاصفة دانيال التي ضربت ليبيا يوم الأحد 10 سبتمبر/ أيلول الحالي، وتركّزت نتائجها في مدينة درنة، حيث انهار سدّان من المياه بسبب عدم صيانتهما، فتركا الأثر الواضح على حدوث الفيضانات وهذا الكم الهائل من الضحايا، كما قال المتحدّث باسم جهاز الإسعاف الليبي أسامة علي، ولا سيما في مدينة شهدت حوالي خمسة فيضانات منذ العام 1942!
الأولوية اليوم هي لدعم الناس، والبحث عن الناجين... إلخ، لكن التصدّي المباشر لهذه المهام بات من الأولوية أيضًا، لأن أي تأخير سينتج عنه ضحايا كثيرون في القادم من الأيام والحوادث. فهل يمكن إتمام مثل هذه المهام في ظل أنظمة ودول يتخطّى ضررها الكوارث الطبيعية (نظام الأسد، على سبيل المثال، استمرّ في قصف مناطق كثيرة تعرّضت للزلازل، وكان أهلها تحت الردمّ)؟ وهل يمكن أن تبقى الشعوب على صمتها حينما تصبح مظاهر غياب دولة القانون والمحاسبة والحامية للناس تؤدّي إلى حتفهم المباشر؟ وهل ستستمرّ الشعوب في قبول شبه العلم والمعرفة الذي تنتجه وتدعمه السلطات، حين يصبح العلم حاجة أساسية ورئيسية لاستمرارهم على قيد الحياة، وليس مجرّد رفاه معرفي، لا هدف له إلا تعزيز قوة السلطة؟
يتوقف مستقبل عالمنا على الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، وعلى كثير غيرها.