عن كرة القدم والهجرة والإبادة
ليس غريباً على الرياضة أن تختلط بالسياسة، ولا أن تكون خير تعبير عن الثقافة والسلوك والأخلاقيات، أو أن ترتبط بأي حاجةٍ نابعةٍ من سياق آخر مختلف تماماً عن حصرها بمجموعة صفات ومهارات رياضية. لم يعد إنسان اليوم، "الإنسان الناجي"، أسير رفاهية الالتزام بالمشاهدة للذّة كرة القدم فقط، بل اختلط حابل المهارات بنابل الانتماءات والتطلعات، فالأمر لم يعد مجرّد تشجيع لمنتخبٍ لطالما كان المفضّل عند المتابع، على الرغم من تعدّد الأسباب والأنماط التشجيعية، بل أخذ يمعن في الارتباط بأحداثٍ وسياقاتٍ سياسية، ويرتبط بقائمة أولوياتٍ لا تبدأ من الموقف من الإبادة المستمرّة للشعب الفلسطيني في غزّة، أو من دعم معتدٍ، ولا تنتهي بالتضخّم الاقتصادي الكوني، ولا بأسئلة الفقر والأمان والإبادة والاحتلال والهجرة.
من هذا المنطلق، من غير المستغرب أن يحجم بعضهم، خصوصًا في لبنان الذي يعاني من نزيف الهجرة المستمر والتاريخي، عن التردّد في حسم المنافسة المحتدمة لصالح الميل إلى منتخبٍ أو لاعبٍ يمثّلان بلاداً فرضت السلطة والطبقة الحاكمة اللبنانية على المواطن اللبناني محبّتها، بعد أن أجبرته على وطء باب الهجرة إليها من بوّابة العمل على تكريس شروط إمكان مستقبلٍ أكثر أمناً ويتمتّع بمعالم واضحة أكثر من بلده الأم، فالأمر بات في عالم اليوم يتخطّى مجرّد المهارات، وأخذ يميل باتجاه من هم أبطال ورموز قوميون في بلادٍ يطمح اللبنانيون، وبقية معشر المهاجرين، أن يكونوا مواطنين فيها.
قد يسأل سائل، ما علاقة هذا كله بتشجيع منتخبٍ ما، خصوصاً عند الانكباب على متابعة مجرّد لعبة هستيرية ومجنونة على الرغم من اعتمادها، في أحيانٍ كثيرة، على التخطيط والعقلانية المحكمة وتوظيف قدرات اللاعبين في أرضية الملعب.
كرة القدم، كالفعل المتعدّي، لا تقف عند حدود، بل تشكّل إحدى البوابات الرئيسية لكل حدود
هنا، تعود الأفضلية لكل من يتمتع بذهنية، فالمدرسة الكروية أشمل من لاعب ومهارة، وتمتد إلى ما هو خارج الملعب، وأشمل من مناسبة يتربّع على عرش آخرتها بطل. هي الذهنية التي تضبط دوران الكرة في الملعب، التمريرات، الرفعات والبينيات، الهجمات، الدفاعات، الانقضاض والانكفاء، محاولة الالتفاف على وقت المباراة المستقطع، التعامل مع الإصابات، التمايل والتشجيع والهتافات في المدرّجات، التشجيع خارج المدرّجات، القضايا التي تدعمها بلاد المنتخبات واللاعبين... إلخ. باتت هذه كلها اليوم تشكّل لحظات حاسمة وفاصلة في هذه اللعبة الجماعية الأكثر شعبية في هذا الكوكب، فاللعبة تشمل، بالإضافة إلى كل ما ذكرناه أعلاه، جماليات البقع الجغرافية التي تسمى بلاداً، من دون أي معايير مسقطة، خصوصاً أن كل البلاد جميلة، كما أن كل منتخب يحوي مهارات تكفي لكي يكون مدرسة قائمة بذاتها. أقلّه، هذا ما قد يخطر في بال إنسان اليوم، بعد معايشة التطوّر الحاصل على مستوى التحضيرات والتدريبات والتقنيات التي لا مثيل لها، لا في تاريخ اللعبة، ولا في تاريخ السياسة والحسّّ الإنساني والجمالي.
إلا أن كرة القدم لعبة تتعدّى كونها مجرّد لعبة، هي نمط وانتماء، هي مجموعة نقائض، وهي احتمالات متعددة، ومستقبل مجهول لا ينضب نابه من جنون وقتال حتى النفس الأخير. وهي هذه الروح التنظيمية والجماهيرية الغفيرة التي تحتل المدرّجات لتشاهد مباراة، ولتتضامن مع منتخب وقضية وقصة، ولترفع علماً أو شعاراً فتعلن عن تعاطفٍ ما في مطحنة الحياة وشروط الإبادة التي نعيشها. كله بهدف إيصال رسالة سياسية وأنماط سلوكية وثقافية وقضايا داخلية وخارجية، وبهدف الإعلان عن الخصوصيات والهويات في عالم فسيح متعدّد، على حد سواء. فهي، أي كرة القدم، كالفعل المتعدّي، لا تقف عند حدود، بل تشكّل إحدى البوابات الرئيسية لكل حدود.
أصبحت كرة القدم أكثر قرباً من آلية تعبير ولغة بمثابة رفض
منذ زمن ليس بعيداً، كان الأمر بمثابة جنون وحسرة على منتخب فاز أم انهزم، لذّة عابرة ومستمرّة في آن. بمثابة دفق مستمر وخسارة وإجهاش. كانت أشبه بالفن للفن، أو ما يمكن وصفه بأنه اللعب للعب من دون أي احتمال آخر. كانت كرة القدم الغاية الوحيدة، من دون أي منازع. أما في عالم اليوم فباتت أكثر قرباً من أنها جزء من آلية غائيات متكاملة ترتبط بأشكال مختلفة بويلات الشعوب، وهجراتها، والفقر المدقع، وأحلام بعض الشبان الذين أتوا من بيئاتٍ وثقافاتٍ مختلفة لتحقيق الذات، ولتلتفّ في وجه هذا العالم ومعاييره السلطوية المرتبطة بالإمكانات والمال والقوّة والتقنية والنفوذ. أصبحت كرة القدم أكثر قرباً من آلية تعبير ولغة، بمثابة رفض، بالإضافة إلى أنها مجالٌ للتنافس والقهقهات والدموع والضحكات.
اليوم، وقد بدأ سيل الجنون هذا في كأس الأمم الأوروبية لعام 2024، مع المطحنة، بالتزامن مع المجزرة والابادة المستمرّة منذ ما يزيد عن ثمانية أشهر في فلسطين، وبالتزامن مع الانسداد التاريخي والاقتصادي والسياسي وتدفّق احتمالات الحرب الكونية، وبالتزامن مع تنافس تلك البلاد التي تحاول أن تجد لذاتها موطئ قدم على مسرح التاريخ وفي عالم السطوة المتفشية، لم يعد من مشكلة في هويّة من يتربّع على عرش المنافسة، بل بات الهدف أكثر قرباً من تعزيز القضايا، من إعلان الانتماء، ومن تحقيق الأمان. باتت هذه كلها مشروعة أمام أي دافع للاختيار والتشجيع، كأن ينظُر المشجّع إلى خسارة فريق الخصم لسبب وقضية، كما أن يبرر فوز المنتخب الذي يشجّعه لقضية وسبب.