حيث لا ينفع الجدل

31 يناير 2022

(محمد علي حمودة)

+ الخط -

شنّ مناصرو فيلم "أصحاب ولا أعز" (إخراج اللبناني وسام سميرة) من الفنانين والمثقفين، هجوماً لفظياً عنيفاً على رافضيه من أكثرية ساحقة، ليست متدينة بالضرورة. وقد وصل الأمر بمن يصنّفون أنفسهم نخباً ثقافية، وفي سياق دفاعهم المحموم عن الحرية وحق التعبير، إلى اتهام خصومهم بالجهل والتخلف وضيق الأفق والرجعية. ومن باب العزة بالإثم، كالوا المدائح المبالغ فيها، غير المستندة إلى أيّ معايير فنية، للفيلم المنسوخ حرفياً عن فيلم إيطالي بعنوان "غرباء بالكامل". وفي الجهة المقابلة، لم يقصّر رافضو الفيلم في الهجاء والسباب بأقذع الشتائم والخوض في الأعراض والنيل من شرف أسرة العمل، واتهامهم بالفسق والفجور، وبعملهم على تشويه قيم المجتمع العربي المحافظ.
عبّر كثيرون عن صدمتهم واستيائهم من محتوى الفيلم الذي تطرّق إلى ثيمات تدور في مجملها حول الجنس الذي ما زال يتقدم قائمة التابوهات في العالم العربي، علماً أنّ اختراق تلك التابوهات جرى منذ زمن طويل، والأمثلة أكثر من أن تحصى في السينما المصرية، لعلّ أبرزها فيلم "المذنبون" من بطولة سهير رمزي. كما أنّ فاتن حمامة قدّمت أفلاماً لا تقلّ جرأة، مثل فيلم "نهر الحب" المأخوذ عن رواية "أنا كارنينا" حيث أدت دور الزوجة الخائنة. وكذلك فيلمها "الخيط الرفيع" إلى جانب محمود ياسين، وقد أدت فيه دور عشيقة تساكن عشيقها الذي تخلى عنها، بعدما قدّمت التضحيات الكبيرة في سبيل صعوده الاجتماعي. لم نلتفت حين ذاك إلى فكرة المساكنة المرفوضة دينياً واجتماعياً، بل تعاطف المشاهد العربي معها باعتبارها امرأة مخذولة، تعرّضت للخيانة والتنكر.
صحيحٌ أنّ تلك الأفلام تضمنت أمثولةً ودرساً أخلاقياً موجّهاً للمرأة على وجه الخصوص، فالمرأة الخاطئة غالباً ما يكون مصيرها الموت، والتي تفرّط في نفسها تُنبذ وتُرفض وتُحتقر من المجموع. أما فيلم "أصحاب ولا أعز" فلم نعثر فيه على أيّ رسالة ذات معالم واضحة، سوى مقولة إنّ المخفيّ أعظم، والتي تختصر العمل ضمن نص مملٍّ سطحي، لم يخلُ من ابتذال، وإخراج مدرسي رتيب، وأداء تمثيلي ضعيف، وإقحام غير مبرّر فنياً لمشاهد وحوارات خارجة من باب اللحاق بركب الحداثة. وعلى الرغم من حجم المشاهدات الهائلة التي حققها الفيلم بسبب العاصفة الإلكترونية الهوجاء التي رافقت عرضه، ما يعتبر ضمن المقاييس التجارية نجاحا منقطع النظير، فإنّ ذلك لا يغير أن الفيلم بالغ الرداءة والنمطية والرتابة، وإنّ عليك، أنت المتلقي، أن تبذل جهداً كبيراً كي تجبر نفسك على إكماله كي تكتمل الصورة لديك، والصورة، من جانب فنّي صرف، ليست مشرقةً.
لا ننكر أنّ النماذج المطروحة في الفيلم موجودة في أي مجتمع، ومجتمعاتنا العربية ليست طهرانية كما يحلو لبعضهم أن يتوهم، لكن هذا الأمر ليس المعيار الوحيد في تقييم العمل. معايير نجاح أي فيلم وجماله أن يلمس روحك ويدهشك، أن يدفعك إلى التأمل، إضافة إلى تحقيق عنصر المتعة، وذلك كله لم يحدُث في أثناء مشاهدة الفيلم. ومهما بلغت ذروة الجدال العقيم القائم، فإنّه سوف يمضي، ولن يعلق في الذاكرة، حين تحاول استعراض الأفلام المهمة التي شاهدتها. وفي النتيجة، العمل غير المبهر يُنسى قريباً، ويلتحق بأرشيف الأفلام الرديئة. غير أنّ المرعب، ويتكرّر دائماً، حالة التشدد في التمسّك بالرأي، والعجز الكلي عن خوض حوار مدني حضاري، وإتقان فن الاختلاف من دون تشنج وتجريح وتكفير ومصادرة من الجانبين. مسألة الذائقة شخصية بحتة، لا علاقة لها بالحقائق، ولا يحق لأحد محاسبة الآخر على مزاجه، مهما كان مختلفاً. يحدث أن تُعجب بعمل فني، فيما يعتبره الآخرون مضيعة حقيقية للوقت، وهذا طبيعي، لا يستدعي كلّ هذا الغضب الذي عبّر عنه كثيرون، وساهموا بشكل أساسي في الدعاية والإعلان لعمل يرفضونه بالمطلق، وهنا المهزلة بالضبط!

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.