حمّى 7 أكتوبر
يخرُج ثلاثي نيران المسلخ، رئيس الحكومة نتنياهو، ووزير الدفاع غالانت، وعضو مجلس الحرب غانتس، في مؤتمرات صحافية دورية، وجوهُهم عليها غبرة ترهقها قترة، معًا وأحيانًا فرادى، بسبب الخصومات البيْنية الفكرية والسياسية وترتيب الظهور، ومدّة الكلام، فيكون نتنياهو أول الخطباء، في خدّه الأيسر ورم، فالخدّان ليسا متعادلين في النضارة والقتارة، أذناه كبيرتان، تذكّران بأذني بشّار الأسد، هذه الآذان بعضها من بعض. يهزُّ نتنياهو رأسَه كثيرًا، فهو خطيبٌ، خشّاش، مصقع، بالعبرية والإنكليزية، وصوته جهير، كأنه مغصوص، لا أعرف زعيمًا عربيًا أفصح من يحيى السنوار، وأسلم بيانًا منه. يزعم نتنياهو أنه يُحسِن مخاطبة الأميركان أكثر من بايدن نفسه، يرغي ويزبد من غير أن يظهر الزّبد على فمه، ويجزم بحتميّة النصر المطلق، لكن أقواله متناقضة ومتخالفة مثل أسعار البورصة؛ سيهاجم دولة قطر، ويحذّر حزب الله بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، ويستأذن بايدن في الهجوم على اليمن، ويهدّد بقتل قادة "حماس" في كل مكان من كوكب الأرض.. الرجل معذور، فقد أصيب بحمّى 7 أكتوبر/ تشرين الأول. ليست حمّى، هي تاريخ جديد.
يقول أحد الثلاثة بعد اكتشاف "نفق غزّة العظيم": "كنّا نعرف أنَّ لحماس شبكة أنفاق، لكن لم نعتقد أنها قادرة على شنّ هجوم واسع النطاق". لقد أخذ الرجل على حين غرّة. يتابع: "لا نستغرب أن تكون هذه استراتيجية حماس، لكن المفاجئ نجاحها، وحجم النفق كان صادمًا حقًا"، وقد سمعت هذا القول من زملاء في امتحانات البكالوريا والجامعة، فقد كان مدرّسونا محاربين لا يترجّلون عن ظهور الخيل. يقول الطالب: لقد "ضربونا"، فالطالب يريد أن يجيب عن الأسئلة التي درسها، هي غالبًا أسئلة الدورة الماضية.
أُذنا الناطق باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري جميلة أيضًا، ربما تطوّرت بنظرية دارون وكثرة التدريب على إصاخة السمع، يقول من غير دموع: نمرٌّ بأوقات صعبة، ومعقّدة، وهناك أمورٌ لم نتعرّض لها من قبل "لقد عثروا على نفق طوله أربعة كيلومترات". وسارع وزير الدفاع إلى أخذ صورة تذكارية، وظهر جنودُه فيه باسمين، كأنهم عثروا على أطلنتس الغارقة، أو مدينة إرم، أو أنهم ارتادوا المرّيخ، لكنهم غمطوا حقّ الكلب البوليسي الذي كشف النفق وسرقوا مجده.
جعلتهم حمّى 7 أكتوبر يُكثرون من النيران الصديقة، بل إنهم أكثروا من الأضواء الصديقة أيضًا، والمقصود بها الدعاية المجّانية التي يقدّمونها إلى حركة "حماس"، فهم يصوّرون يحيى السنوار وكأنه رئيس قوة عالمية سادسة، وبثّوا صورًا لمحمد السنوار، وهو يتروّح في النفق.
ربما يتحوّل النفق إلى متحف رعب من أجل الإثارة. لقد فشت الحمّى في القوم، فقد أبدى بايدن رغبة طارئة في توحيد السلطة الفلسطينية، وتحدّث عن حلِّ الدولتين الذي كان منسيًّا، وكثر ظهور سياسي فتحاوي، هو حسين الشيخ، بعد 70 يومًا من الحرب، فصرّح تصريحاتٍ غير صريحة، تحتاج مفسّرًا مثل العكبري لفهمها، فقال: "غير مقبول اعتقاد بعضهم أن طريقة حماس بإدارة الصراع مع إسرائيل كانت المثال الأعلى والأفضل". وقال، في تصريح آخر لـ"رويترز" يشكو إليها همّه وبثّه: ألا يستحق الأمر إجراء تقييم جادّ وصادق ومسؤول لحماية شعبنا وقضيّتنا بعد كل ما حدث؟
ويظهر أنَّ أميركا ستندب إليه توحيد "القُطرين"، وقد يكون بسمارك غزّة والضفة الغربية، وتبني أميركا له جسرًا معلقًا بينهما، ربما تحفر له نفقًا أجمل من نفق السنوار، لكنّ أبا مازن لا يزال على ظرفه الأصلي وأعراض الحمّى على خدّيه الدهينين، فهو يقول إنه سيحكم غزّة لكن بشروطه. المنتصر يفرض شروطه، "حماس" هي التي ضربت، وهو الذي سيقطف الثمرة، وهو يطالب بأن تحكم غزّة ستة أشهر بقوات دولية وعربية، ثم تسلّم له بعدها غنيمةً باردة.
نعود إلى أعراض حمّى 7 أكتوبر التي أصابت القوم الظالمين، ليس آخرها أنَّ بايدن اتصل بأبي مازن، وطالبه بتوسيع صلاحيات رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، الذي ظهر في موكب من سيارات، لشراء وجبة فلافل، فصدق فيه الأثر: "إنَّ عباد الله ليسوا بالمتنعّمين"!