حكاية واينار رحماني وأمه ريحانة

05 أكتوبر 2022
+ الخط -

الحكاية تكمن في التفاصيل، ولكن ما أكثر العبر وأقل الاعتبار.

واينار رحماني طفل استقرّ اسمُه في الذاكرة، مذ ردّدته بضع إذاعات في هوامش أخبارها، مع أن أحدا لم يهتم بمولده، كما لم يأبه أحد لموته، وقد فتح عينيه بضع ساعاتٍ، ثم أغمضهما على حلم، لأمه ريحانة حكاية مختلفة، فقد قدّر لها أن تنشأ في بلادٍ أنكرت عليها أصلها وفصلها، ثم قذفت بها خارج حدودها. استقرّت ريحانة بعد حين في معسكر لجوء في بلدة كويسنجق بمحافظة أربيل العراقية، لكنها لم تشعر بالأمان لحظة واحدة. هي تعرف تماما طبيعة حكّام بلادها المجبولة على الشر، وفي أعماقها هاجس الخوف منهم. ولم تمرّ بضعة شهور على فرارها من بلادها واستقرارها في معسكر اللجوء البائس، حتى تحوّل هاجس الخوف عندها إلى حقيقة، عندما انقضت "مسيرات" الحرس الثوري وصواريخه البالستية على المعسكر، وشاء القدر أن تكون ريحانة إحدى ضحايا القصف الشرير، وهي حامل بطفل خرج من أحشائها حيا، لكنه أسلم روحه بعد ساعاتٍ ليأخذ اسم "واينار" الذي أوصت له به.

امتدّت الحكاية لتصبح حكايات، تكرّر القصف الصاروخي ليشمل مواقع أخرى في شمال العراق، من بينها مدرسة أطفال، وليقتل 18 ويجرح ويعوق 62 آخرين... احتجّت بغداد بعد لأي، سلم مسؤول في وزارة الخارجية ورقة الاحتجاج إلى السفير الإيراني محمد كاظم آل صادق الذي بدا في الصورة التي نقلتها الفضائيات وهو يبتسم، خلافا للأعراف الدبلوماسية، وكأنه ساخر من ورقة الاحتجاج شامتٌ بالضحايا. وبعد الاحتجاج اليتيم، تكرّر القصف الصاروخي الإيراني لشمال العراق، وتردّد أن وحدة عسكرية إيرانية اجتاحت الحدود الدولية، واتخذت من قمم جبال عراقية موقعا لها. وباستثناء بيانٍ خجولٍ لرئيس الحكومة، صمت المسؤولون الآخرون وزعماء الأحزاب وقادة المليشيات صمت القبور عن إدانة هذه الأفعال، متمسكين بقاعدة أن "ضرب الحبيب زبيب"، وبلغت الوقاحة بأحدهم أن أطلق تغريدة يستنكر فيها الاحتجاج العراقي، ويعتبره "خطوة غير مقبولة"، إذ هو مقتنع بأن من حق الجارة العزيزة أن تضرب المعادين لها في أيّما مكان، ناظرا إلى واينار وأمه معاديين لدولة ولاية الفقيه، وإلا لما هربا من البلاد، ولذلك يستحقان العقاب.

تدرك إيران أنّ العراق بلد جامح، وجار يصعب ترويضه، وعصيٌّ على من يحاول إخضاعه، لذا تعمد إلى استغلال أي ظرف متاح لها لكسر إرادته

تبدو كل هذه الوقائع كأنها حلقات في مسلسلٍ يضمّ مشاهد تراجيدية وكوميدية بالغة الدلالة والوضوح، وفي تضاعيفها يظهر الاستخفاف الإيراني بالعراق ومحاولة استفزاز شعبه، وترويضه على القبول بواقع حالٍ شاذّ، سعت إلى تكريسه على مدى الأعوام العشرين الأخيرة، ربما ثأرا من الجرح الذي ألحقه العراقيون بها في حرب السنوات الثماني، ذلك الجرح الذي اقترن بإجبار الخميني على تجرّع كأس السم، وغير غائب عن البال أن سلوكها هذا غير معزول عن مجمل استراتيجيتها التي تعتبر العراق رأس الرمح في مشروعها الإمبراطوري في المنطقة، وهو أمر لا يخفيه المسؤولون أنفسهم.

ولأنها تدرك تماما أن العراق بلد جامح، وجار يصعب ترويضه، وهو عصيٌّ على من يحاول إخضاعه، تعمد إلى استغلال أي ظرف متاح لها لكسر إرادته. وأمامنا سجل حافل بتدخلاتها في الشأن العراقي، وعدم اهتمامها بروابط الجوار والدين والتاريخ المشترك، وحتى في عدم توفر النية الصادقة لديها في تطبيع علاقتها مع العراق، وتجاوز ما سبّبته الحرب من آثار، والسعي إلى إقامة سلام دائم، وهذا ما رصده باحثون ودبلوماسيون. وفي ذاكرتنا ملاحظة لافتة للسفير الأميركي المخضرم، رايان كروكر، الذي خدم في العراق قبل عقد، سجل فيها إصرار الإيرانيين وتصميمهم على إبقاء حربهم على العراق مشتعلة.

يقول كروكر إن قاسم سليماني المسؤول عن الملف العراقي في حينه لم يكن يريد إنهاء الحرب إلا فوق الأراضي العراقية، ويخطّط دائما لاستخدام القوة في سبيل تحقيق هذا الهدف، ومن ضمن خططه توظيف "الحرس الثوري" والمليشيات التي أنشأها في العراق في إدامة ذلك. ولا يبدو في ملاحظة كروكر هذه قدر من المبالغة أو التعسّف في الحكم، خصوصا وأن القادة الإيرانيين لا يفتأون يكرّرون، في مناسبة أو من دون مناسبة، أنهم يعتبرون بغداد إحدى عواصم إمبراطوريتهم، يخالطهم شعور مريض بالهيمنة والتفوّق الزائف.

هذا كله ليس غريبا على إيران، لكن الغريب أن حكام العراق اليوم يتصرّفون تصرف العبيد مع أسيادهم، ولا يعتبرون بما مضى، وما أكثر العبر وأقلّ الاعتبار.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"