حق الإنسان في العلف داخل مزرعة الحيوانات
قال عبد الفتاح السيسي أمام ما يعرف بتجمّع "فيشغراد" في العاصمة المجرية بودابست: لم تخرج مركب هجرة غير شرعية من مصر، ولكن كل الهجرة من دول افريقية ودول حدثت فيها عدم استقرار، ونسميهم في مصر ضيوفا وليسوا لاجئين، ولم نسمح بهجرتهم إلى أوروبا لتصدير مشاكل أو الإلقاء بهم في المجهول.
.. بصرف النظر عن أن التجمّع الذي ينتمي إليه السيسي ينعقد في عاصمةٍ لا تحترم حقوق الإنسان من الأصل، وفي الذاكرة القريبة صورة المهاجر السوري الذي تركله مصوّرة صحافية مجرية بحذائها الثقيل، فإن السيسي إما أنه يكذب عامدًا متعمّدًا على الأوروبيين .. أو أنه صاحب ذاكرة غير صديقة لكل ما يتعلق بحقوق الإنسان المصري، واندفاعه نحو الهجرة إلى الشاطئ الآخر من البحر المتوسط.
في عمق الذاكرة، غير البعيدة، تقبع مأساة قارب الهجرة غير الشرعية الذي غرق، أو تم إغراقه، قبالة سواحل مدينة رشيد، شمالي مصر، والتي لقي فيها أكثر من مائتي شخص، من المصريين والجنسيات الأخرى، حتفهم غرقًا مع قاربهم المتهالك في العام 2016.
ليس مفهومًا هنا ادّعاء السيسي بأنه لم تخرج مركب هجرة غير شرعية من مصر، وخصوصًا أن هذا القارب الغارق في رشيد حمل فوق طاقته الاستيعابية أربعة أضعاف، على مرأى ومسمع، وبتصريح من السلطات المصرية قبل أن يتحرّك، ويغرق بمن عليه!
أخبار قوارب الهجرة الغارقة، أو التي يتم إغراقها في عرض البحر لا تنقطع، إذ تتيح الفرصة أمام السيسي لكي يجدّد تقديم نفسه إلى الأوروبيين، بوصفه كبير خفر سواحل جنوب المتوسط الذي يسهر على أمن أوروبا وحمايتها من خطر المهاجرين الأشرار. وفي المقابل، يريد من القارّة العجوز أن تكفّ عن الكلام عن حقوق الإنسان المصري، وألا تتوقف عن تزويده بما يريد من سلاحٍ يضبط به السواحل، ويقمع به ذلك الإنسان في حزمة واحدة.
بعد سلسلة من التعريفات المضحكة لمفهوم حقوق الإنسان، كما رآها السيسي على مدار السنوات الماضية، ها هو ينحت تعريفًا جديدًا أمام من يسمّيهم الأصدقاء الداعمين له في"فيشغراد"، فيهبط بحقوق الإنسان إلى الأسفل، ليصبح "ملفّ الهجرة غير الشرعية من أشكال حقوق الإنسان المفقودة في منطقتنا، وليس فقط منظور التعبير عن الرأى والممارسة السياسية".
صار من حقوق الإنسان الآن الحق في منعه من محاولة الهجرة، فرارًا من قمع سياسي أو اضطهاد، ومن أوضاع اقتصادية بالغة السوء. أما التعبير عن الرأي والممارسة السياسية فتلك أشياء لا تصلُح للإنسان المصري، أو الإنسان الذي تمنعه مصر من الهجرة، بصرف النظر عن جنسيته، إذ يكفيه معسكر إيواء يتم إطعامه فيه بعض الفتات، لكي يقول الجنرال لأوروبا فيما بعد: انظروا كيف أحميكم من المهاجرين .. هيا ادفعوا.
قبل هذه المرحلة، كان التعريف المعتمد للإنسان بنظر السيسي هو ذلك الكائن الذي، فقط، يأكل ويشرب ويشاهد مسلسل الاختيار، ويتفرّج على بناء الكباري، ولا يتكلّم في السياسة أو في الاقتصاد، أو حتى في فيروس كورونا، وإلا فسوف يُعاقب بالحبس والحرمان.
وكما قلت سابقًا على ضوء التصريحات المنبعثة من السيسي في مناسباتٍ عدة، فإن مفهومه لما يعتبرها "حقوق الإنسان" في مصر يناسب حيوانات المزرعة أكثر مما يتماشى مع طبيعة الإنسان، وتعريف الوجود البشري، سواء في النصوص الدينية المنزلة من السماء، أو في النظريات الفلسفية التي تكونت على الأرض.
مع ماكرون، الرئيس الفرنسي الصديق لكل المستبدّين العرب، أعلنها السيسي أكثر من مرّة، سواء في باريس أو في القاهرة: ينبغي على الأوروبيين ألا يطبقوا معاييرهم لحقوق الإنسان على المواطن المصري. ثم كرّرها بتعبيرات أخرى: لن تعلمونا إنسانيتنا، فهي غير إنسانيتكم.
هذا المفهوم ينطلق على ألسنة كل أركان النظام المصري بصياغاتٍ متفاوتة، تبلغ حد الجنون أحيانًا، كما حصل مع رئيس البرلمان السابق علي عبد العال، وهو يؤدّب الأوروبيين ويعطيهم دروسًا في حقوق الإنسان، مع إصدار أي انتقادٍ لحالة حقوق الإنسان في مصر من البرلمان الأوروبي، حيث التركيز، طوال الوقت، على أن"الاعتلاف حق لكن الاختلاف في الرأي جريمة خيانة عظمى تجعل مرتكبها مستباحًا في حريته وأمنه وماله وسمعته".
بالمناسبة: ما هو تعريف أصدقاء السيسي الأوروبيين لحالة السطو والاستيلاء على أموال إنسان وومتلكاته، صفوان ثابت نموذجًا لعشرات الحالات، وجد نفسه في السجن بعد مسيرة نجاح اقتصادي نظيف، لأنه لم يدفع الإتاوة لهؤلاء الساهرين على حماية أوروبا؟