حفل "تنصيب" دار الإفتاء المصرية
"يجوز إخراج زكاة الفطر نقوداً، الحد الأدنى 35 جنيهاً، ومن زاد فهو خيرٌ له"، هكذا كتب متخصّصٌ ما في المعارف الشرعية على صفحة دار الإفتاء المصرية، ليتفاعل آلاف المتابعين بـ"لايكات" مؤيّدة، أو تعليقات من شباب، أغلبهم صغار السن، تدعو على دار الإفتاء، وتسبّ القائمين عليها، وتصحّح مفاهيمهم، وتردّهم إلى "الدين الصحيح"، الذي لا يجيز إخراج زكاة الفطر نقوداً، إنما طعاماً، كما جاء في بعض الأحاديث.
ثمّة خلافات فقهية موسمية تتكرّر في موعد سنوي محدّد، بالشكل نفسه، والمحتوى نفسه، ثم بالنتيجة نفسها، من دون أي تغيير، كأنها طقس، أو فولكلور شعبي، مثل فوانيس رمضان وعصائر التمر هندي والعرقسوس. والخلاف حول كيفية إخراج زكاة الفطر قديم، ويمكنك، بسهولة، ومن دون الحاجة إلى "مُفتين" معاصرين أن تتعرف إلى الرأيين من خلال كتابات الباحثين الذين يتمتعون بالحد الأدنى من النزاهة، في عرض الرأيين وترجيح أحدهما، من دون استبعاد الآخر، فهذه المسألة، وغيرها كثير، من المسائل التي يصحّ أن تتجاور فيها الآراء، من دون إزاحة أو "رفض"، خذ مثلاً أحد أهم الكتب التي تناولت ركن الزكاة في تاريخنا كلّه، وهو كتاب الشيخ يوسف القرضاوي "فقه الزكاة"، في الفصل الثالث، وعنوانه "دفع القيمة في الزكاة"، يعرض القرضاوي للخلاف وأسبابه، وأدلة المانعين من إخراج القيمة، أولاً، ثم أدلّة المجوزين، ثم يوازن القرضاوي بين الرأيين، ويرجّح دفع القيمة (أي النقود)، هنا "صنايعي" يعرض بداية لأدلّة مخالفيه، من دون تشويه لها، فهي معتبرة، ثم لأدلّة من يتّفق معهم، ثم يوازن، وفق منهج ورؤية، تجمع بين قصد الشارع وطبيعة الظرف، الزماني والمكاني. كذلك يفعل المختص "النزيه" على الطرف الآخر، ومن ألطف ما قرأت، هناك، مقال الشيخ حاتم بن عارف العوني بعنوان "سبب ترجيح عدم جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر"، ويعرض العوني، بدوره، للرأيين، ويقرّ بأن إخراج الزكاة نقوداً "قولاً معتبراً سائغاً"، لكنه لا يختاره، لأنه يرى أنه ثمّة حكمة في تنويع الشرع لأنواع الصدقات (نقد في زكاة المال وعروض التجارة، وأنعام في زكاة السائمة، وثمار في زكاة الحصاد، ولحم في الضحية والهدي والعقيقة، وأقوات في زكاة الفطر،… إلخ). والحكمة، وفق العوني، هي "إغناء المحتاج بأنواع متعددة من العطايا، جبراً لانكساره فيها جميعها، وتعويداً للنفس على الجود بكل أنواع النعم، فلا تعتاد النفس الشح والبخل بشيء".
ما الدافع إذاً لشتيمة دار الإفتاء المصرية؟ الإجابة السهلة أن الشتّامين "شوية عيال"، أغبياء وجهلة، وهي إجابة لا تخلو من صحة، وتدل إليها مئات التعليقات العدوانية والكوميدية في آن، كما أن شيوع نماذج التديّن العدواني، شديد التوحش، أمر واقع، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن وجهاً آخر من وجوه الرفض، والمقاومة، لـ"كل" ما يصدُر عن دار الإفتاء، وغيرها من المؤسّسات الدينية الرسمية في مصر، ولو كان صحيحاً ومسبوقاً، يصحّ أن يؤخَذ في الاعتبار، أن أداء هذه المؤسّسات "غير مهني"، ما أفقدها هيبتها و"سمعتها" أمام ملايين المتابعين، وسَهّل مهمة تشويهها على خصومها، خذ مثلاً ساخناً، هو أداء صفحة دار الإفتاء في "صياغة" الفتوى التي تجيز إخراج قيمة الزكاة، والتي تعمد فيها المدوّن أن يكتب الرأي الراجح عنده، وعند المؤسّسة، في صورة "أمر عسكري".. كذا يجوز، نقطة، انتهى. وهو يعلم، يقيناً، أن جيشاً من المعلّقين سينتصر للرأي الآخر، وأنّ وابلاً من الشتائم والتشكيك في بوصلة العلم وصحّة الدين ينتظر فضيلته. وكان الأجدى والأعقل والأكثر مهنية أن يكتب الشيخ مقالاً، أو يسجل فيديو، يعرض الرأيين في هدوء، ثم يرجّح أحدهما من دون أن يستبعد الآخر، أو ينفي وجاهته، تماماً كما فعل القرضاوي والعوني، وهما فردان، وليسا مؤسّسة، لكن الشيخ "الأدمن" اختار منطق 'التريند"، وقصف الجبهات، بوست مقابل بوست، ومكايدة بمكايدة، وطوبة على طوبة. فهل هكذا تبرّر مؤسّسات الدولة وجودها، وتمارس وظيفتها؟