حضارة توبيخ القتلة وإبادة المقاومين
مع استمرار حرب الإبادة الصهيونية في غزة، ما يزال رد الفعل الغربي بشأنها يعمّق القناعة، في مختلف أنحاء العالم، بأن الحضارة الغربية تنتكس أخلاقيًا ومعرفيّاً كما لم يتخيل أكثر خصومها تطرفًا. وفي إطار حشد الغرب لدعم حكومة الكيان الصهيوني، صُكَّت مقولة تحريضية مضلّلة تؤكّد أن المواجهة هي بين "الحضارة" و"البربرية"، وتردّدت الفكرة في الإعلام على سبيل التحليل، وسريعاً انتقلت إلى الخطاب الرسمي الصهيوني فردّدها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بصياغات متقاربة، مؤكّدًا أنه يقود إسرائيل إلى الحرب نيابة عن "حرّاس الحضارة".
ولاحقًا كرّر نتنياهو أن هزيمة إسرائيل تعني هزيمة أميركا، وأن الانتصار الساحق على "حماس" وحده ما ينقذ "الحضارة". وقبل أسابيع، انتقد رئيس الوزراء الكندي عدد القتلى من الأطفال في الحرب على غزّة، فكان رد نتنياهو: "يجب أن تساند قوى الحضارة إسرائيل"، هكذا!
وسواء كانت النخب السياسية الغربية مقتنعة بالفكرة أو تستخدمها لتحقيق أهداف سياسية، فإن المحصلة ستكون كارثية حاضراً ومستقبلاً. وقد استشرفت ما ينطوي عليه شيوع هذه الفكرة من مخاطر في مقال سابق في "العربي الجديد" ("غزّة التي تهدّد سلام العالم"، 17/11/ 2023) وهي "مغالطة تحريضية تتردّد بصياغات مختلفة في خطاب السفاح الصهيوني بنيامين نتنياهو".
ونشر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، بوريس جونسون، قبل أيام، مقالاً اعتبر فيه أن حظر تصدير الأسلحة إلى إسرائيل يساوي "موت الحضارة الغربية". وترافق ذلك مع ما سمّاه انتشار "مرض" تأييد الدعوة للحظر، وأصيب بالعدوى أعضاء في مجلس العموم، والرئيس السابق لجهاز الأمن الخارجي MI6، وقضاة سابقون في المحكمة العليا.
الانتشار الواسع لمقولة الدفاع عن الحضارة بسفك دماء "البرابرة" يعني انهيار كل ما بدا أنه راسخٌ في معرفتنا بالغرب
وتنتشر كثير من شعارات المواجهة الشاملة بأسرع مما يمكن توقعه، وبخاصة في فضاء عام مشبع بخطابات الإسلاموفوبيا بأشكالها كافة، والإعلان الرسمي الأميركي – البريطاني عن ضرورة القضاء على "حماس" لبدء عملية سياسية في غزّة، مباشرة بعد جريمة قتل عمّال إغاثة عاملين في المطبخ المركزي العالمي، يؤكد أن الغرب (مُـمثَّلًا في قيادة التحالف الأنغلوساكسوني) أصبح يتبنّى "رسميًا" معيارًا أخلاقيًا للدفاع عن الحضارة تقتضي عدالته "توبيخ القتلة وإبادة المقاومين"!، فبعد عزل ضباط في الجيش الصهيوني وتوبيخهم بعد جريمة قتل عمْد مروّعة، أكّدت تصريحات رسمية غربية عدّة تبنِّي الرواية الإسرائيلية "المفضوحة" لجريمة الاستهداف المتعمّد، وإضافتها إلى فاتورة "ثمن الدفاع عن الحضارة". وفي استعادة لأكثر لحظات الانحطاط الكولونيالي الغربي انطلقت ماكينات تبرير وتحريض جبّارة تردّد نغمة حتمية الانتصار المطلق على "البرابرة". ولم يترفع قارعو طبول حرب الإبادة عن تأكيد أن الرحمة، بل حتى الإنصاف، خطيئة في التعامل مع "أعداء الحضارة". وفي تحذيراتٍ متكرّرة أكّد نتنياهو أن إسرائيل (ما لم تنتصر) لن تكون آخر المهزومين، وأن الدور سيكون بعدها على آخرين في الإقليم وخارجه.
وما يعنيه هذا الانتشار الواسع لمقولة الدفاع عن الحضارة بسفك دماء "البرابرة" يعني انهيار كل ما بدا أنه راسخٌ في معرفتنا بالغرب، وهو، بالإضافة إلى ذلك، يعزّز صدقية كل الرؤى الصدامية في الثقافة العربية المعاصرة. واليوم، تُثبت حرب غزّة صحة كل ما جرى التحذير منه الأكثر تشددّاً، وكل ما حاول "بناة الجسور" و"دعاة الحوار" مع الغرب إشاعته أصبح كـ "نقود أهل الكهف".
وإلى أجلٍ لا يعلم مداه إلا الله، سوف يشهد العالم العربي عداءً واسعًا للغرب، سيكون من الصعب جدًا احتواؤه أو تجازوه، وخطابات العداء والمواجهة الشاملة سوف تتجذّر عربيًا. ووهم "كي الوعي" الذي يسكن العقلين، الغربي والصهيوني، أسفر عن تدمير شامل لرؤية الشعوب لذاتها الحضارية وللعالم معاً، وثمرتها المرّة لم تنضج بعد. ومعايير التصنيف الإقصائية والاستئصالية التي كشفت عنها مواقف القوى الغربية الكبرى من الحرب، وفّرت ذخيرة لـ "صدام الحضارات" الذي ألقاه المفكر الأميركي، صموئيل هنتغنتون (1996)، كقبنلة أصابت أهل غزّة شظاياها بعد ما يقرب من 30 عاماً من نزع فتيلها.
والخطاب الرسمي الغربي الذي قَبِل بشكل صادم "توبيخ" القتلة كعقابٍ كافٍ على جريمة قتل عمد عاملين في مجال الإغاثة، وهو نفسه الذي يتمسّك بضرورة "إبادة" المقاومين، وعدالة أن تطلق حركة حماس كل من أسرتهم في عملية طوفان الأقصى ليحصلوا على هدنة قصيرة تعود بعدها إلى تدوير ماكينة تدمير غزّة وإبادة "حماس" والمدنيين الفلسطينيين العزّل.