حسناً أنّ أبي قد مات
في ذكرى 13 نيسان
حسناً أنّ أبي قد مات. هكذا تراني أردّد في سرّي كلما استعصى المشهدُ من حولي وبؤسَ وتدهور. حسناً أنّه مات هو الذي ظنّ أنه عايش أسوأ ما كان من الممكن أن يحصل للبنان. كانت الحربُ لم تنتهِ بعد. وكان، بعد سنوات انتظار واشمئزاز مما جرى، يشعر بأسى وخيبة انعكستا على وجهه ومزاجه الذي قلّما عرفناه عابساً من قبل. لست أدري لما أستحضرُ عينيْ أبي كلّما ازدادت الأوضاعُ سوءاً، كأنّ عيني وحدهما لا تكفيان لتسجّلا ما يحصل، الأحرى لتستوعباه، وكأنني، بمعيّة نظرته، أوسّع الرؤية وأرى أبعد وأفضل. هكذا أراني أربطه بما كانه لبنان في فترة سلامه وألقه. كأنّ الذي صار لوالدي في أثناء الحرب جعله غير الذي كان قبلها، فكان أن توقّفت به عشية 13 نيسان 1975، حين كان ما زال الشيب جميلاً فوق سالفيه، وأناقته بادية على بذلاته ونظّاراته، وبيروت تتبرعم صباحاً، لتتفتّح كلّ مساء. كان ربيعاً مكتملاً وكان يوم أحد. خرج والداي من المنزل شابين بهيّين، مرتديين أجمل ما عندهما لحضور عرس، وحين رجعا، كانا بملامح أخرى وكأنّه قد تم استبدالهما. بهذه الدقة. بتلك البساطة. هذا ما تحفظه ذاكرتي عن ذاك النهار الزلزال، عن ذاك الثقب الأسود الذي لا يني يجذبنا إلى مركزه حيث ينهار الفراغ على الفراغ.
حسناً أنّ أبي قد مات. فقط لو أنّ الحظّ أسعفه فنفد بجلده قبل حلول 13 نيسان. لقد توفّي في نهاية شهر فبراير/ شباط، بعد مرور 13 عاماً على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. كان علينا أن ننتظر بعدُ سنتين لا أكثر، ليُعلن عن انتهاء الحرب، كنتُ أردّد متحسّرةً في سرّي كونه قد غادر قبل أن ينعُم بحلول السلام وبرؤية عاصمة قلبه تنتعش وتعود إليها الحياة. كان سيُسَرّ بانبعاث الميناء، وعودة السيّاح، وإعادة إعمار وسط بيروت، وإمكانية التجوّل دونما موانع وحواجز وتهديدات. لكنه كان سيشعر بالغربة أفكّر، لأنه ما كان سيجد أماكنه المعتادة في بيروته التي يحبّ. لا بأس، لكان فرح على الأقل بعودة الأمان، فنام مطمئناً علينا، قرير العين غير قلق على وطنه لبنان. لكن، اليوم، بعد حصول ما حصل من أزمة نفايات، وحرائق أكلت الأخضر واليابس، وانهيار الاقتصاد اللبناني وإجهاض انتفاضة تشرين، ودخول 80 بالمائة من الشعب اللبناني تحت خطّ الفقر، أضحك في سرّي وأنا أحمد ربّي على نعمه كلّها علينا، وعلى رفعه أبي إلى السماء قبل أن تبلغ حرائقُ جهنّم الأرضَ حيث نقف.
أجل، الحمد كلّ الحمد له لأنّ أبي قد مات. حتى أنّي أحياناً، وإذ تبلغ درجة تفاؤلي مبلغاً هائلاً أجدني أفكّر أنّ أبي، قبل مماته في التاريخ المعلوم، كان قد قضى ربما في ذلك النهار المشؤوم الذي خرج فيه للاحتفال بزواج ابنة العائلة، أي في 13 نيسان، ذاهبةً حتى إلى افتراض أنّ الشعب اللبناني برمّته، قد وافته المنيّة في ذلك التاريخ، وهو إنما مستمرٌّ منذ ذلك الحين في تمثيل الحياة، في ادّعاء البقاء والعيش والاستمرار وكأنّ شيئاً لم يكن. كيف ترانا قرّرنا أنّ شيئاً لم يكن وأنّ بمستطاعنا التقدّم على هذا الأساس، من أوعز إلينا ومن أقنعنا وكيف نجوْنا من المحاسبة، وهل نجونا فعلاً؟
والحق، لست أدري كيف طممنا هذي اللحظة الحاسمة، كيف لم ندونها على كلّ باب، فوق كلّ ذراع، كيف لم نُقِم صروحاً وقبوراً لنُدفَن فيها بل تُركنا هكذا في العراء، تائهين، هائمين، من دون مراسم صلاة أو محافل عزاء. كذبنا على الموت وكذّبناه، وها نحن نبحث اليوم عن بلادنا تحت التراب.