حساسية أردنية تجاه أسعار المحروقات
تركت أحداث الأسابيع الثلاثة الأخيرة في الأردن بصمات سوداء في نفوس الأردنيين، إذ شيّعوا أربعة من رجال الأمن العام، أحدهم برتبة عالية (العقيد عبد الرزاق الدلابيح)، وذلك في غمرة الاحتجاجات على موجة الرفع المضطرد لأسعار المحروقات، وتدهور مستوى المعيشة. وقد ودّعوا مع شهداء الشرطة مُعارضاً مستقلاً بارزا (ليث شبيلات) الذي عُرف بدعواته التي لم تنقطع إلى مكافحة الفساد وتفعيل الدستور، علاوة على الشعور بأن مسلسل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية لا يجد علاجاً ناجعاً ومستديماً له، وهو ما ينعكس على التوقعات غير المستبشرة بالعام المقبل، ما خلّف حالة من الاكتئاب العام، من مظاهرها ركود الأسواق وامتناع الطوائف المسيحية (6% من السكان) عن الاحتفال بأعياد الميلاد عدا إقامة الشعائر الدينية.
ومع أن الأردنيين يبُدون توجّسا عالياً من ارتفاع أسعار المحروقات، نظراً إلى انعكاسه على محتلف السلع والخدمات، ولأن شريحة واسعة من السكان في الجنوب والوسط (عمّان الكبرى والزرقاء) تمتلك مركبات عامة من شاحنات وحافلات صغيرة ومتوسطة وسيارات أجرة، أو تمتهن السواقة، إضافة إلى أن مادة الكاز التي تُستخدم للتدفئة وتُعتبر رفيقة الشرائح الفقيرة في برد الشتاء، لهذا تبدو الحساسية عالية إزاء الزيادة المضطردة في أسعار المحروقات، إلى درجة أن كثيرين يعرفون كثقافة يومية عامة سعر تنكة (عبوة من التنك) البنزين (20 لترا)، حتى لو لم تكن مِهنهم ذات صلة مباشرة باستهلاك الطاقة، أو حتى لو كانوا ضمن صفوف المتعطلين عن العمل. ولطالما ارتبطت الاحتجاجات والهبّات الشعبية بأسعار المحروقات. ومنها على الخصوص هبّة نيسان 1989 التي حققت انعطافة تحول ديمقراطي نسبي، لكنه نوعي. وكذلك احتجاجات يونيو/ حزيران 2018 التي دفعت إلى إقالة حكومة هاني الملقي، من دون أن يقول أحد إن تلك التطورات جاءت استجابة لمطالب شعبوية كما يتردّد هذه الأيام في وصف التجاوب مع الاحتجاجات.
ترتفع أصواتٌ تطالب بتسعيرة عادلة وموضوعية، يتم معها رفع الغموض عن معادلة التسعير لهذه السلعة الحيوية
وقبل أشهر، لم يتوانَ مسؤولون عن الحديث عن أربع زيادات مقبلة في أسعار المحروقات، من غير ربطها بالسعر العالمي المتقلب للنفط، ما يثير التساؤل عن هذه الشهية المفتوحة لرفع سعر هذه السلعة التشغيلية الحيوية. وقد تحقّقت الزيادات التي جرى التصريح بها، فكانت موجة الاحتجاجات التي بدأت بإضراب سائقي الشاحنات التي تنقل البضائع الواردة من ميناء العقبة، وتلك التي تتجه إليه لنقل الصادرات. ويُحاجج كثيرون بأن أسعار المحروقات في السوق الأردني في غابر الأيام، وحين كان السعر العالمي للبرميل يبلغ 140 دولارا، كان السعر المحلي حينذاك أرخص بكثير مما أصبح عليه هذا السعر مع انخفاض السعر العالمي للبرميل إلى 70 دولارا. وبهذا، أصبح انعكاس السعر العالمي عكسياً، إذ يرتفع السعر محليا مع انخفاضه عالميا. ولهذا ترتفع أصواتٌ تطالب بتسعيرة عادلة وموضوعية، يتم معها رفع الغموض عن معادلة التسعير لهذه السلعة الحيوية، وحيث تدفع الشكوى منها نائبا سابقا إلى الجنوح إلى المبالغة بتصريحه أن الحكومات في الأردن تربح من بيع النفط أكثر مما تحققه الدول المنتجة من ربح، وشمل كذلك في حديثه السيارات المستوردة، إذ قال إن الحكومات تحقق عائدا من بيعها وما يتصل بها من جمرك وتسجيل ونقل ملكية وتأمين أكثر مما تحققه الدول المنتجة للسيارات! ويُذكر هنا ان العاصمة عمّان تتوافر وحدها على نحو مليون ونصف مليون مركبة خاصة وعامة، ولمختلف الأغراض، وسط هزال وسائط النقل العام.
وإذ يُحذّر رئيس الحكومة، بشر الخصاونة، من أن خفض أسعار المشتقات النفطية تلبية لمطالب الرأي العام، وبمعزل عن السعر العالمي لها، يتسبب بمشكلات جسيمة، فإن هذا الاستخلاص الذي لا يماري أحد في وجاهته تنقصه إزالة الإبهام عن طريقة احتساب الأسعار، وحجم الضرائب الثابتة والمتحرّكة المفروضة على كل لتر منها، والإجابة عن التساؤل: لماذا تبدو تبدو أسعار المشتقات النفطية في حالاتٍ كثيرة في واد، والسعر العالمي لها في واد آخر. حتى أن عدد الزيادات في العامين الأخيرين بلغ 16 زيادة من غير أن يزيد السعر العالمي بهذا العدد من المرّات، فيما أثار تصريحه، وهو خبير قانوني واقتصادي وإداري، إن الحكومة "لا تملك ترف خفض أسعار المشتقات النفطية" موجة من الدهشة، إذ تعتبر مواءمة أسعار المحروقات مع مستوى المعيشة للشرائح الفقيرة والضعيفة بالحد من الضرائب عليها أمراً حيويا، يمُسّ حياة نحو نصف عدد السكان على الأقل وقوتهم. وقد سعت الحكومة إلى التقليل من الأضرار بزيادة مبالغ المعونة الوطنية للأسر الفقيرة (بما يشمل دعم المحروقات)، وزيادة عدد الأسر المشمولة بالمعونة، وتأجيل دفع القروض المستحقّة على أصحاب الشاحنات، وهي خطوات تخفيفية وذات أهمية، غير أنها قابلة للتبدّد مع الارتفاع المضطرد في تكاليف المعيشة وزيادة نسب الفقر والبطالة التي غذّتها عوامل خارجية، مثل جائحة كورونا وتداعيات الحرب على أوكرانيا واللجوء السوري إلى الأردن.
كان في وسع الحكومة أن تطفئ لهيب الغضب، وتحاصر موجة الاحتجاجات في مهدها
وعدت الحكومة بتخفيض مُجزٍ على أسعار المحروقات في نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وقد جرت العادة على إعلان قائمة أسعار المشتقات النفطية شهريا، وإذ يبدو التخفيض الموعود بمنزلة هدية للشعب في العام الجديد، فقد كان الأوْلى والأصحّ أن يطرأ هذا التخفيض في أواسط الشهر، حتى لا تأتي "الهدية" متأخرة، وذلك إنصافا للمتضرّرين ولامتصاص موجة الغضب. وسبق للحكومة أن كسرت، ذات مرة، عُرف التسعير الشهري، وأعلنت عن أسعار جديدة في منتصف الشهر.
كان في وسع الحكومة أن تعمد إلى تقديم الموعد، وعلى الأقل من باب "خير البِرّ عاجله"، وأن تطفئ لهيب الغضب، وتحاصر موجة الاحتجاجات في مهدها، ولن تعدم الحكومة وسيلة لتسويغ مثل هذا القرار، من قبيل أنه جاء ثمرة حوارات وتفاهمات مع الفاعلين النقابيين ورؤساء البلديات والقادة الاجتماعيين، واستجابة للصالح العام وتقديراً لصعوبة الظرف المعيشي، ومنعا للاستغلال والتصيّد في الماء العكر، بما ينأى بالحكومة عن رميها بـ"الخضوع للتحدّي"، أو استجابتها لضغط قابل للتكرار، غير أن الذي حدث قد حدث، والاحتجاجات قد هدأت بعد الاستشعار الشعبي للخطر مع وقوع شهداء وتضرر الاقتصاد الوطني، ومع تطلعات باقية، دفينة ومعلنة، أن يتم استخلاص العبر، وأن يُصار إلى وضع حد لمسلسل الأزمات، بحيث يتشارك الجميع بالأعباء والعوائد تحت مظلة العدالة المنشودة.