حسابات السياسة و"الشعارات"
في أكثر من مناسبة، خلال الأسبوع الماضي، أبدت الحكومة العراقية، وعلى لسان رئيسها، محمد شيّاع السوداني، موقفاً ينأى بالعراق عن الانخراط في مواجهة مباشرة بالحرب في غزّة، سوى المواقف السياسية الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، والمناهضة للاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يتصادى مع مواقف غالبية الشرائح والاتجاهات والتيارات السياسية والاجتماعية في العراق. ولكن هذا الموقف يضع التيارات السياسية التي تصف نفسها من محور المقاومة في موقفٍ محرج، فهي تشتغل أصلاً في الساحة السياسية العراقية، وتفرض سيطرتها بقوة السلاح بالاستناد إلى سردية مقاومة الاحتلال. وها هي ساعة الجدّ قد حانت، فلا احتلال أقسى وأوضح من الاحتلال الإسرائيلي، وهو ليس في قارّة بعيدة، ويمكن من خلال سورية، وهي ساحة لنشاط معتاد لفصائل عراقية مسلّحة عديدة، أن تحقّق على الأرض ما أتعبت السامعين من ترديده سنين طويلة. ولكن بعض هذه الفصائل فضّلت التظاهر أمام الحدود العراقية الأردنية، وكأنها أخطأت الطريق، أو ربما لأنها تعرف أن هذا طريقٌ مسدود، يكفي لاستعراض المواقف من دون المجازفة بشيء أكبر.
ترفع حكومة السوداني المدعومة من تيارات سياسية سردية المقاومة، وقد أبدت موقفاً رسمياً ينأى عن هذه السردية، بما يوحي باستقلاليّة الحكومة، وأنها تحاول التصرّف بشكل براغماتي يرعى مصالح العراق. وقد تكون كذلك، ولكن موقفها يلتقي مع الخطّ العام الذي انتهجته إيران، أحد الفاعلين الكبيريْن (مع أميركا) في السياسة العراقية، تجاه ما يمكن العمل به في الحرب الجارية في غزّة.
ماذا لو أن إيران أفتت بالانخراط في الحرب، والعمل ضد إسرائيل وحلفائها، وأبرزهم أميركا الحاضرة في العراق؟ هل تستطيع حكومة السوداني حينها أن "تنأى" بنفسها؟ إنه سؤال افتراضي يولّد إحراجا كثيرا، لأن عراقاً يدخل في مواجهة مباشرة مع أميركا سيكون معزولاً، تنقطع عنه الإمدادات، بما يؤثر لاحقاً على إيران نفسها، التي تعتمد كثيراً على العراق، وعلى انفتاح العراق على العالم، لتخفيف العزلة الايرانية. ثم إن إيران، بعيداً عن العراق، لا تريد الانخراط في حرب غزّة، لأن المستوى الذي دخلته الحرب هذه المرّة أعلى من المتوقّع عند إيران، وأعلى من إمكانية "الاستثمار الآمن" لها. وصار من الواضح عند الفلسطينيين بشكل عام، وعند حركة حماس، أنها حربهم وحدهم، كما قال أمين عام حزب الله حسن نصر الله.
كل التيارات السياسية الداعمة لحكومة السوداني اليوم بلعت لسانها، أما التي أطلقت الصواريخ على المعسكرات الأميركية في العراق فهي التي لديها حسابات سياسية خاصّة، لا علاقة لها بصورة جوهرية بساحة الصراع في غزّة. فهي، أولاً، صواريخ محدودة التأثير ومدروسة بعناية لإحداث تأثير إعلامي أكثر مما هو مادّي، وثانياً لأنها تريد تعديل موقعها داخل دائرة النفوذ السياسي والمالي، وابتزاز الحكومة وتياراتها الداعمة. ولكن هناك تهديدا جدّيا بأن تُحدِث الصواريخ "الإعلامية" تأثيراتٍ غير متوقعة على المصالح الأميركية، حتى عند مطلقيها، فيتفجّر صراعٌ لم يكن في الحسبان، وهذا ما دفع رئيس الورزاء العراقي إلى الطيران إلى طهران لحثّ مسؤوليها للضغط على الفصائل "المتمرّدة"، حتى لا تقع في المحظور.
التيارات السياسية العراقية بشكل عام، وخصوصا التي ترفع سردية المقاومة، لم تفعل خلال عقدين شيئاً لتعزيز استقلال العراق، ولبناء مقدّراتٍ وأسسٍ للاستغناء عن الحاجة الأساسية للوجود الأميركي، خصوصاً بما يتعلّق بحماية عائدات النفط، وتصفية ملفّ الدائنين الدوليين، وتنويع الاقتصاد الأحادي المستند إلى النفط تحديداً، وتعزيز قوّة النظام السياسي وتوسيع قاعدة شرعيته من خلال استيعاب التيارات والآراء السياسية المختلفة، وفرض سلطة القانون، ودعم النظام الديمقراطي وبناء مؤسّسات قوّية.
وإذا فعلت هذه التيارات ذلك، فسيكون العراق في موقع أقوى، وأكثر نفعاً لأبنائه وللقضايا العادلة التي تستحقّ الوقوف معها مثل قضية الشعب الفلسطيني وصراعه من أجل نيْل حقوقه.