حزيران الذي سمّاه السريان وكرهه السوريون
ربما لا يكترث السوريون كثيراً إلى أن الممثلة المصرية زهرة العلا ولدت يوم 10 يونيو/ حزيران عام 1936، أو أن عالم الرياضيات والفيزياء الفرنسي أندريه أمبير قد فارق الحياة في اليوم نفسه من العام 1836. لكنهم يقفون متوجّسين أمام هذا اليوم، وكأنه شاخصةٌ مرورية صدئة لا تفضي إلى أيّ اتجاه، أو أنه مثل كدمةٍ استقرّت فوق وجوههم واستفزّتها، إذ انتهت فيه حرب حزيران عام 1967، وفيه أعلنت عائلة حافظ الأسد موته عام 2000. حينها ظهر نبأ موت "القائد الخالد" إلى الملأ بصوت المذيع مروان شيخو وصورته من دون برنامجه التلفزيوني الشهير "تحيّة الإفطار"، كما لو أنه استنطاقٌ مدبّر بعناية لقياس درجة الحزن الجماهيري والفقدان، حرص فيه شيخو كآخرين على أن تظهر دموعه مفجوعةً قبل صوته، وكأنه تدرّب سابقاً على أداء هذا المشهد الاستثنائيّ عشرات المرّات.
لم يساير يونيو/ حزيران من العام 2000 كثيراً مسألة المخيّلة السوريّة الباحثة عن خياراتٍ سياسيةٍ تكنس من خلالها حكم عائلة الأسد للبلاد، فلا عبد الحليم خدّام نائب الرئيس صار رئيساً، ولا فاروق الشرع. كما لم تستطع أيٌّ من الرتب العسكرية الثقيلة من الحرس القديم تحريك التباس المشهد السياسي الساكت ولو قيد أنملة، بما فيهم رفعت الأسد مع كلّ ميوله الدموية، وعدد الموالين له من الطائفة العلوية القابضة على رقبة الجيش والأجهزة الأمنية، بقي شقيق "القائد الخالد" بعيداً في فرنسا يراقب بمرارة عودة ابن أخيه من عاصمة الضباب ليودّع جثة أبيه الملتصقة بعربة مدفع، ومن ثمّ يعتلي كرسيّ الحكم في سورية من دون أن يُكّدر مزاجه أحد.
حتى إن التلفزيون الإسرائيلي كان ودوداً لحظة موت "القائد الخالد"، وهو الذي طالما اعتبر نفسه الخصم الأيديولوجي العنيد لدولة الكيان العاشق للتوسع. يومها قطع "التلفزيون المعادي" نسق برامجه الاعتيادية، وزوّد متابعيه بتصريح رصين لإيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، حيث أبدى تفهّماً عميقاً لمشاعر الحزن التي ألمّت بالسوريين جرّاء وفاة "قائدهم الخالد"! وهو الحزن العميق نفسه الذي عاقر مزاج رئيس الولايات المتحدة في ذلك الحين، بيل كلينتون، وألهمه أن يرسل وزيرة الخارجية، مادلين أولبرايت، لتقديم التعزية بالجثة المحمولة فوق مدفع قبل أن تطير إلى القبر الرخاميّ الفاره في القرداحة.
كان علي دوبا الذي شارك الأسد شهر موته، فيما مضى، عين "القائد الخالد" التي يبصر من خلالها خفايا سورية ولبنان
تُعيننا اللغة السريانيّة حين تختار لاسم حزيران معنى القمح أو الحنطة، فهو شهر حصادهما، وفي ذلك مقاربة أنطولوجيّة لفكرة الإثمار، وتحيّن القطاف، فأيُّ ثمارٍ جناها السوريون من شهر الحصاد باسمه السريانيّ ذاك؟! لعلّهم أضافوا موتاً حزيرانيّاً آخر هذا العام كشاهدٍ إضافيّ على مسيرة اندثارهم البطيء، تمثّل بوفاة العماد علي دوبا، الذي كان يوماً ما الرجل الثاني بعد حافظ الأسد في هرم السلطة داخل النظام السوري، رماه الموت في الشهر نفسه الذي اختاره "القائد الخالد" شهرَ موته. لكن جثة العماد دوبا لم تُحمل على عربة مدفع، ولم تَطِرْ إلى قبر من فئة الخمس نجوم، وإنما يتذكّره السوريون مرتدياً كمّامة فم، بجسد هزيل يدفعه كرسيّ متحرّك، وهو يُدلي بصوته عام 2021 مبايعاً ابن "القائد الخالد" رئيسا خالدا إضافيا للبلاد.
كان دوبا الذي شارك الأسد شهر موته، فيما مضى، عين "القائد الخالد" التي يبصر من خلالها خفايا سورية ولبنان، وهذا بفعل رئاسته جهاز المخابرات العسكرية منذ العام 1974 وحتى 2000، والذي يُعدّ أشد الأجهزة الأمنية السورية بطشاً ورهبة. وحين تقاعد لم يعد أحدٌ من السوريين يتذكّره بشيء، أسوةً برجالات الحرس القديم الذين أزاحهم "القائد الخالد الشاب" إلى خلف الستارة التي يُدار من أمامها الشأن العام، وسمّم رتبهم العالية، وسلطتهم غير المحدودة بالتقاعد الإجباري، أولئك قد يحفظ السوريون أسماءهم وأسماء مناصبهم، لكن بالكاد يتذكّرون وجوههم، أو قد لا يتذكّرون. لكن المعارضين لفكرة القائد الخالد، والنظام الخالد إلى الأبد، لا يسعهم أن ينسوا كيف أن المظاهرتين الأكبر داخل السيرة الذاتية للثورة السورية جاءتا في شهر القمح السريانيّ، في الثالث منه عام 2011، حين اعتصم خمسون ألف متظاهر في محيط ساحة العاصي في مدينة حماة، وكذلك في محيط ساحة الحرية بمعرّة النعمان، وكان يومها الجمعة التي حملت شعار "جمعة أطفال الحريّة".
مرّ عيد الأضحى في الثلث الأخير من شهر الحصاد لدى السريان، شهرِ الخيبة لدى عموم السوريين، مرّ قليلَ الجلبة والبهجة
بعد هذا بسنة، وفي 30 يونيو/ حزيران من العام 2012 ظهرت النسخة التجريبية الأولى من مؤتمر جنيف، بحيث إنّ أيّ مخيلة مهتمّة به بدت عاجزةً عن المجازفة والتوّقع بأن تظل يدا المؤتمر خاليةً من الأدوات التنفيذية لمقرّراته، حينها دعا مبعوث الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إلى سورية الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وكلاً من قطر والكويت والعراق والاتحاد الأوروبي والأمين العام للأمم المتحدة، والأمين العام لجامعة الدول العربية لعقد ذاك المؤتمر، بهدف إنهاء العنف الدائر في سورية، والاتفاق على مبادئ الانتقال السياسي للحكم. وبالرغم من انقضاء 12 عاماً على أول تجلٍّ له، إلا أن شيئاً لم يتغيّر في الواقع السوري، عدا عن ظهور التباسات جديدة مردّها تعدّد الأطراف المتصارعة داخل جغرافيا البلد المهزوم للغاية، والذي اختُطف مصيره باتجاه الطبيعة المستبدّة لأقطاب الصراع على الأرض، وبين عامي 2012 و2017 كان قد مرّ على مدينة جنيف السويسرية ثمانية مؤتمرات لحلّ الأزمة السورية، من دون أن يحصد أحدٌ حلاً في أيٍّ منها، سوى المواظبة على أداء فروض الحضور والطاعة.
كما أن الانضمام إلى جولة تاسعة من ماراثون جنيف السوري صار مستبعداً منذ أعلن المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سورية، غير بيدرسون، ذلك في أواخر شهر يونيو/ حزيران من العام الماضي، ربما بسبب موقف سويسرا المنحاز إلى اصطفاف دول الاتحاد الأوروبي مع أوكرانيا في حربها ضد روسيا، إذ ذاك لم يعد مشجّعاً لموسكو في أن تقبل مزيداً من جنيف مكانا ووصفة للتداوي من ملف الأزمة السورية، وهذا ما دلّل عليه المبعوث الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرونتييف، حين صرّح عن ضرورة نقل تلك الاجتماعات إلى مكان أكثر حياداً من تلك المدينة السويسريّة.
مرّ أيضاً عيد الأضحى هذا العام في الثلث الأخير من شهر الحصاد لدى السريان، شهرِ الخيبة لدى عموم السوريين، مرّ قليلَ الجلبة والبهجة، فاقداً عمقه الطقسيّ ومذاقه المعهود، إذ لا تزال المأساة السورية سمينة كحالها، حافية وطازجة، لا تشوبها شائبة مع بقاء هذا النظام قائماً متجبّراً كما عهده بنفسه. اللافت أيضاً أن رأس النظام السوري لم يأمُر هذا العام بصرف تلك المنحة التي يعشق صرفها في الأعياد الدينية، منحة العشرة دولارات لجمهوره الموالي من الموظفين والعمّال والعسكريين. سيكره السوريون إذاً هذا العام شهر القمح السرياني أكثر من السابق بكثير، سيكرهونه كما لو أنه حصدهم هذه المرّة بلا عتابٍ مسبق، وإلى غير رجعة.