حرب تحرير الفلوجة من أهلها

22 مايو 2014

دمار في الفلوجة بعد قصف حكومي (مايو 2014 أ.ف.ب)

+ الخط -
ثمة تطابق لا تخطئه العين بين الموقفين الإيراني والأميركي من الحرب "المقدسة" التي تشنها حكومة بغداد على مدينة الفلوجة، بدعوى"الحرب على الإرهاب"، وثمة توافق في دعم هذه الحرب عسكرياً وإعلامياً، فإيران ترى في حكومة بغداد الظهير الرئيسي لتنفيذ استراتيجيتها في المنطقة التي تستند، ليس إلى مشروعها الطائفي فحسب، وإنما إلى طموحاتها القومية العنصرية التي لا تخفيها، وهذا ما أكده الجنرال محمد حجازي، نائب رئيس الأركان الإيراني، في "استعداد إيران لمساعدة العراق عسكرياً في معركته (في الفلوجة)، ووضعها كل خبراتها الأمنية والعسكرية لصالح الجيش العراقي"، فيما يرى الأميركيون في الحكومة نفسها، والتي جاءت نتيجة لمخطط "تحرير" العراق، والذي نفذته إدارة الرئيس جورج بوش الابن، الحليف الضامن لرعاية مصالحها في المنطقة. ولذلك، بادرت واشنطن إلى تسريع إرسال طائرات وأسلحة ومعدات إلى العراق، وهو ما أفصح عنه قائد القيادة المركزية الأميركية، لويد أوستن، في زيارته الأخيرة لبغداد.
وتعزز الذاكرة التاريخية موقفي الطرفين، فالإيرانيون يرون في الفلوجة "الحصن البعيد" الذي استعصى اقتحامه على كورش الكبير، أول ملوك الفرس، حينما استولى على آسيا الصغرى وبابل وميديا، في القرن السادس قبل الميلاد، فيما يحتفظ الأميركيون بحادثةٍ لم تزل طرية، حينما ظلت الفلوجة عصية عليهم، عندما أقدموا على غزو العراق، قبل أحد عشر عاماً، واستعصى عليهم اقتحامها، وهي المدينة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 48 كيلومتراً مربعاً، ولم تشر إليها الخرائط العسكرية للغزاة، إلا عندما تحولت إلى بؤرة ساخنة، انطلقت منها شرارة المقاومة، بعد 19 يوماً من دخول الأميركيين بغداد، وفي العام التالي، تكبدوا على أبوابها خسائر فادحة في الجنود والمعدات في معركة واحدة، دخلت التاريخ على أنها "معركة الفلوجة الأولى"، حدثت في نيسان/ أبريل 2004، وحملت بوش على الاعتراف "لقد واجهت قواتنا أسبوعاً قاسياً ... وأصلي كل يوم من أجل أن تتراجع الخسائر"!

وهكذا، تحولت الفلوجة، في الذاكرتين الإيرانية والأميركية، كما تحولت من قبل في الذاكرة البريطانية عندما فشل الإنجليز في اقتحامها، إثر انتفاضة الضباط القوميين في أيار/ مايو 1941 إلى علامة مؤرقة، تؤرخ لكفاح العراقيين، من أجل التحرر والانعتاق، وكتب فيها الشاعر معروف الرصافي قصيدته التي كان أبناء جيلنا ينشدونها على مقاعد الدرس:
"أيـها الإنجليزُ لن نتناسى بغيَـكُمْ في مســاكن الفلوجَه 
ذاك بغيٌ لن يشفي الله إلا بالمواضي جريحَه وشجيجَه"
  إلى أن يقول:
   "هو كربٌ تأبى الحميّة أنّا  بسوى السيف نبتغي تفريجَه"!
اعتاد الفلوجيون، إذن، أن يشهروا سيوفهم كلما شعروا بمظلمةٍ، تحيق بهم، ولم يدرك المارينز ذلك، إلا عندما فشلوا في محو الفلوجة من الخارطة، كما وعدوا، وكذا فشل نوري المالكي في أن يعبر أسوارها، عندما جيّش خمسين ألفاً من جنوده، وتوعد أهلها بـ"تصفية الحساب"، زاعماً أنه يخوض "حرب الحسين ضد يزيد"، محاولاً إذكاء المشاعر الطائفية، بالتذكير بواقعة تاريخية، حدثت قبل ألف وأربعمئة عام.
بالطبع، بعض من يتحصن في المدينة إرهابيون من "داعش" والقاعدة، وبعضهم من رجال "الصحوات" التي أنشأها المالكي نفسه، وباركها الأميركيون، وبعضهم رجال عشائر، يبحثون عن الجاه والثروة، وآخرون متدينون متطرفون، لا يؤمنون بحق غيرهم في الاختيار العقيدي، لكننا نعتقد أن الممارسات الإقصائية التي انتهجتها حكومات الاحتلال هي التي وفرت الفرصة لاشتداد عود كل هؤلاء، وتقوية نفوذهم في المدينة، على حساب أكثرية سكانها الذين عاشوا خيباتٍ متواصلة منذ الغزو الأميركي، حالهم حال مدن ومحافظات أخرى، وُصمت بأنها تتبع مكوناً، يدور في فلك الموالاة للنظام السابق، وباتوا يشعرون بالإحباط، جراء انعدام المساواة في الحقوق والواجبات، وعدم تكافؤ الفرص بينهم وبين مواطنيهم من أبناء المحافظات الأخرى.
وزاد من غضبهم ونقمتهم سعي المالكي إلى إجهاض كل التسويات التي كان يمكن أن تطفئ النار، وتحقن الدماء، ومنها الحلول التي أوصت بها لجنة تحقيق برلمانية، مطلع عام 2003، وأقرت بوقوع مظالم على أهل المدينة، وضرورة إطلاق سراح المعتقلين والسجناء، وخصوصاً النساء منهم، وتعويض المتضررين، وإعادة النازحين إلى منازلهم، لكنه لم يلتفت إلى هذه المعالجات، وأبقاها حبراً على ورق، وصولاً إلى توظيف حربه "المقدسة" هذه في معركته الانتخابية، وسعيه إلى الولاية الثالثة، متظاهراً بأنه يحارب خصماً مذهبياً يريد الشر بالآخرين.
وإذا كان المالكي وأضرابه من قادة "العملية السياسية" يفكرون على هذا النحو، فإن المشكلة سوف تتفاقم، حتى يدرك الجميع أن نقطة الانطلاق للتعامل مع الشؤون والمشكلات العامة ليست في إغراق الناس العاديين في حمى الاستقطاب الطائفي، وتصعيد المشاعر المذهبية المريضة، وإنما في إيجاد السبل والوسائل التي تكفل إرساء دعائم السلام الاجتماعي، على قاعدة احترام التنوع الديني والعرقي والمذهبي، ولن يتم ذلك إلا بإسقاط "العملية السياسية" المشبوهة، والتوجه نحو تأسيس "عملية سياسية" وطنية، يتساوى فيها العراقيون جميعاً أمام القانون، وبغير ذلك، سيجد العراقيون أنفسهم في مزيد من الصراعات والتوترات والنزعات التقسيمية والانفصالية التي قد تقود إلى حرب أهلية، قد لا ينجو منها أحد.
    
   
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"