حرب بين معسكرين في الشرق الأوسط
لطالما اعتمد البروتوكول العسكري، بين إيران وإسرائيل، على تجنيب العمق الإيراني المواجهةَ المباشرة، وكان كلّ تصعيد عسكري يقوم به حزب الله، أحد وكلاء إيران، يقترن بتحرّك سياسي محسوب، تريد منه إيران إيصال رسالة أو تسجيل موقف، وكانت إسرائيل تردّ مباشرة على الجهة المهاجمة، وعادةً ما وجّهت ضرباتٍ إلى جنوب لبنان أو إلى الداخل السوري، وفي كلّ هجمات إسرائيل، وفي جميع هجماتها المضادّة، قبل 19 إبريل/ نيسان الحالي، بقي العُمق الإيراني بمنأى عنها. لكنّ الهجوم المباشر على القنصلية الإيرانية في دمشق، أول الشهر، اعتبرته إيران هجوماً مباشراً عليها، وكسراً للبروتوكولات السابقة، فقرّرت الردّ بيد إيرانية صرفة هذه المرّة، ووجهت أكثر من 300 صاروخ وطائرة مُسيّرة نحو إسرائيل، انقشع دخانها الكثيف عن أضرار لا تُذكر، فأُسقط معظم تلك القذائف قبل أن تدخل أجواء الأراضي الفلسطينية المحتلّة. ورغم النصائح الأميركية، ردّت إسرائيل وهاجمت صاروخياً قاعدة عسكرية إيرانية في أصفهان، أول من أمس الجمعة.
تحطّم مفهوم المواربة التي تفرض تجنُّب الوقوف وجهاً لوجه، وكُسرت قاعدة الاعتماد على طرف ثالث. ويتطلّب هذا التصدّع في الاتفاقات غير المكتوبة جهوداً ضخمة من حلفاء الطرفيْن، وقد بدأ بالفعل ظهور معسكريْن كبيريْن يقفان في وضع الاستعداد. فقد ساهمت الضربة الإيرانية في تخفيف العزلة الإسرائيلية عندما وجدت حولها حلفاء "مخلصين"؛ الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، أسهم هؤلاء الحلفاء في جعل الضربة الجوّية مجرّد ألعابٍ نارية. في المقابل، تجلس إيران بين روسيا والصين، وهي تصدّر أكثر من مليون ونصف مليون برميل من النفط يومياً إلى بكين، وهذه نسبة ترشّحها لتكون من الحلفاء المقرّبين. وفي الوقت ذاته، تساعد طهران موسكو، فتمدّها بالمُسيّرات الإيرانية لإدامة الحرب على أوكرانيا، ويتصاعد تطور العلاقات بين روسيا والصين لتشكيل ما يشبه التحالف الذي من الممكن توسيعه، وتحديد مفاهيمه السياسية وربما العسكرية، ويمكن تفسير انهيار التفاهمات غير المكتوبة، بشأن طريقة التعامل العسكري بين إسرائيل وإيران، في إطار خريطة التحالفات التي تتشكّل بالفعل.
لم تُظهر إيران ردّ فعل قوياً تجاه الهجمات الإسرائيلية على قاعدتها في أصفهان، وقالت إنها تصدّت لما وصفته بـ"مُسيّرات صغيرة" هاجمت أجواء أصفهان، وقالت أيضاً إن منشآتها النووية بعيدة وآمنة ولم تتعرّض للأذى. لا يبدو من خطاب المسؤولين الإيرانيين أنهم في عجلة من أمرهم، ولا يبدو أن إيران ترغب في التصرّف منفردة، بل تتريّث لتعرف رأي الحلفاء، وحتى ردّ إسرائيل، أخيراً، جاء محدوداً وضيقاً وقليل التأثير، ما يعكس استيعاب إسرائيل رغبات حلفائها في تجنّب توسيع رقع الحرب الدائرة في غزّة، وعلى تخوم أوروبا الغربية في أوكرانيا.
انبعاث التكتلات الكبرى إلى الوجود مرّة أخرى سلاح ذو حدين، ويمكن أن يعمل بشكل غير متوقّع، فقد كانت الأحلاف في السابق تُلزِم الأطراف حدوداً متعارفاً عليها، وكان كلّ طرف يعترف للآخر بمناطق نفوذ يلعب فيها، ويطبّق فيها أيديولوجياته، لكنّ أحلاف اليوم لها عناوين مختلفة، فإيران وشركاؤها يخضعون لعقوبات متفاوتة الشدّة، ويمارسون السياسة والتجارة بمنطق الاختلاس والهروب من العقوبات، وإيران في الوقت ذاته محتقنة ومُتخمة بالسلاح، وقادرة على إشعال حرب كبرى، لكنّها غير راغبة فيها، والولايات المتّحدة وأوروبا، ومعهما إسرائيل، تلتزم بحرب من نوع آخر، تعتمد على الاستنزاف والمراهنة على الوقت للقضاء على الخصوم، وهذه السياسة تبيّن أسلوبها في الدعم الذي تقدّمه لأوكرانيا وطريقة تعاطيها مع إيران. أمّا العلاقات مع الصين فلا تختلف كثيراً رغم المسار الاقتصادي المستمر معها. ويبدو التحفّز واضحاً، فلا تبرد جبهة حتى تسخن أخرى، فقد بدأت المواجهات في بحر الصين لتنتقل إلى أوكرانيا، ثمّ تقفز إلى الشرق الأوسط، حتى وصلنا، اليوم، إلى مشهد المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران.