حرب القطيعة التاريخية والصراع المفتوح

12 مايو 2024
+ الخط -

الحرب التي شنّتها إسرائيل، ولا تزال، على غزّة لن تقف آثارها عند حدود هذه المدينة الصابرة وأهلها المظلومين. فتداعياتها النفسية أعمق بكثير من أطنان القنابل التي سقطت فوق رؤوس أهلها، ودمّرت مُعظم مبانيها، وقضت على مقوّمات الحياة فيها. فالكوارث التي حصلت لن تُمحى من ذاكرة الأطفال، الذين فقدوا الأهل والمأوى والسند والأمان والطعام والماء. إذ يتّفق الخبراء في القول إنّ العدوان الإسرائيلي "ألحق دماراً مادياً هائلاً في القطاع، تجاوز حجم الدمار الذي تعرّضت له مدينة درسدن الألمانية، التي قصفتها قوات الحلفاء عام 1945، خلال الحرب العالمية الثانية".

هناك جيل جديد سيرث مرحلة ما بعد الحرب. جيل ناقمٌ، لا يخاف الموت الذي أحاط به من كلّ جانب، وعاينه في كلّ زاوية، وغرس أنيابه في جسده وأحلامه، حتّى أصبح لا يأبه له ولا يخافه. هذا الجيل لن يسكت عن ماضيه وحقوقه، ولن يتخلّى عن أرضه التي ولد فيها، وسيدفن فيها، مهما طغى المُستعمِرون الصهاينة. يكفي الاستماع إليهم وهم يتحدثون بثقة أمام الكاميرا عن محنتهم فلا تكاد تميزهم عن الكبار. ثقافتهم السياسية وحتّى العسكرية عالية. فما تعلّمته الأجيال الماضية عن فلسطين وحروبها المتعاقبة، طيلة سبعين عاماً، استوعبه الجيل الجديد خلال الأشهر السبعة الماضية. لهذا قتل الجيش الإسرائيلي الجبان ثلاثة عشر ألفاً منهم، لأنّه يعلم أنّ حربه المقبلة ستكون مع هؤلاء الصبية الذين شرّدهم اليوم وأذاقهم العذاب. هم وقود المعركة المقبلة، وهم الذين تراهن عليهم المقاومة الحالية، وتسعى إلى تسليمهم راية الجهاد في مستقبل الأيام. فالفلسطينيون يتوارثون المقاومة جيلاً بعد جيل، كما يتوارثون حبّ فلسطين واللغة والمُعتقد وشجر الزيتون. وقد أثبت التاريخ أنّه مع كل جيل ينمو الحقد، وتقوى الرغبة في الثأر، وتتطوّر أشكال القتال والصمود والتحدّي. وما يحصل الآن في قطاع غزّة أكبر دليل إذا قارناه بما حصل في محطّات القتال السابقة.

تبخّر السلام بعد تدمير غزّة. من يراهن على احتمال إقامة صلح مع الدولة العبرية هو واهم. فما فعله الجيش الصهيوني من أفعال متوحّشة، وما بثّته حكومة بنيامين نتنياهو من حقد وكراهية، يعجز القلم عن وصفه وتعداده. ذلك كلّه من شأنه أن يقتلع أيّ رغبة في طي الصفحة وبناء مستقبل مُشترك. لن يكون المستقبل للسلام ما دامت قوى الشرّ تتحكم في توجيه هذا الكيان وتسييره. كلّ ما في إسرائيل من فكر وإعلام ومؤسسات وتعليم ودور عبادة ورياض أطفال وجمعيات ونقابات وشرطة وجيش، كلّه، أو أغلبه على الأقلّ، مُسخّر لتحقيق هدف مركزي واحد، هو تهميش الفلسطينيين وحرمانهم من حقوقهم الدنيا، خطوةً أساسية نحو التخلّص منهم عبر التهجير الاختياري أو القسري، حتّى تصبح فلسطين كلّ فلسطين أرضا يهودية. هذا ليس دعاية أو خطاباً أيديولوجياً، بقدر ما هو برنامج سياسي ينفّذ عبر مراحل، ويشارك الجميع بنسب متفاوتة في تحقيقه. هذا ما استقر عند كاتب هذه السطور، بعد متابعة ليوميات الحرب على غزّة، والاستماع لعشرات الشهادات والاعترافات التي أدلى بها مثقّفون ومؤرّخون وطلاب ومحاربون قدامى وصحافيون، تجمعهم هوية واحدة من ناحية أنّهم يهود يرفضون الصهيونية، ويرون فيها وباء قاتلاً وتوظيفاً بشعاً للدين والقيم اليهودية الأصيلة. هؤلاء سيكون لهم دور حاسم في تخليص العالم من هذه الأيديولوجيا الخطيرة، القائمة على العنصرية والإقصاء. فالصهيونية، كما تجسّدت في حرب إبادة سكان غزّة، هي المعاداة الحقيقية للسامية. ويكفي استعراض ما حصل طيلة الأشهر الماضية للتأكّد من أنّ الذين يديرون الشأن السياسي والعسكري والديني والثقافي والإعلامي في إسرائيل هم الخطر الداهم، الذي يهدّد السلم ومنظومة القيم في العالم. من أجل التصدي لهؤلاء تحرّك عقلاء الغرب وحكماؤهم ليساندوا ثورة الطلاب في مختلف جامعاتهم.

ما يجري حالياً هو انقلاب في موازين القوى داخل المجتمعات الغربية. هناك عودة العقل والضمير والقيم الإنسانية. لم تَمُتْ حقوق الإنسان كما ادّعى بعضهم. شعار يوحّد النخب المتمرّدة على النظام العالمي المتهالك "فلسطين حرّة" بعد سقوط الأقنعة.