حربُ الأجندات المتداخلة في السودان

27 أكتوبر 2023
+ الخط -

كادت الحرب في السودان التي فجّرها تمرّد قوات الدعم السريع في منتصف إبريل/ نيسان الماضي، أن تكمل شهرها السابع، وعلى الرغم من آلاف التعليقات والمقابلات التلفزيونية ومئات المقالات التي كُتبت عنها، إلا أن أهداف هذه الحرب وهويتها ما زال يلفّها قدر كبير من الغموض، فهناك عشرات من الأسئلة المتناسلة التي ما إن تقترب من الإجابة عن أحدها حتى يظهر لك آخر بحاجةٍ إلى إجابةٍ أيضاً.

معروفٌ أن التوتّر السياسي في السودان بلغ مداه عقب 5 ديسمبر/ كانون الأول 2022، يوم التوقيع على ما عُرف بالاتفاق الإطاري، وهو صيغة رعتها أطراف إقليمية ودولية، وقيل إنها تهدف إلى استعادة القيادة المدنية الفترة الانتقالية وتعزيز التحوّل الديمقراطي. ومنذ ذلك التاريخ، بدأت عمليتا فرزٍ واستقطاب حادّتان وسط القوى السياسية السودانية، فمن جهةٍ تمَّ تصنيف القوى السياسية التي وافقت على التوقيع على الاتفاق إلى ثلاثة أصناف (قوى ثورة – قوى سلام – قوى انتقال)، وترتب على هذا التصنيف منح كل صنف حقوقاً سياسية متفاوتة، بينما اعتبرت القوى التي تحفّظت على الصيغة المطروحة للاتفاق الإطاري، أو رفضتها من حيث المبدأ، مُعرقلة للانتقال، وتوعّدها خصومها السياسيون وداعموهم الدوليون بالعزل والتهميش.

وبمثل ما حدث للقوى المدنية، جرت كذلك عملية فرز حادّة وسط القوى العسكرية المسلحة، إذ تبنّت قوات الدعم السريع كامل المشروع السياسي للقوى التي وقّعت على الاتفاق الإطاري، وفي مقدمتها مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير، إلى الدرجة التي أصبح فيها قادة الدعم السريع يتوعّدون علناً قادة الجيش والشرطة بالعقاب إن لم يعيدوا السلطة إلى القوى السياسية المدنية التي كانت حاكمة قبل 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021. وفي الوقت نفسه، هدّد أكثر من متحدّث باسم مجموعة المجلس المركزي التي كانت حاكمة بالحرب إن لم يوافق الجيش السوداني على الاتفاق الإطاري، واعتماد الصيغة المطروحة لكيفية دمج القوات وفق مسوّدة ذلك الاتفاق، وهي صيغةٌ اعتُبرت، على نطاق واسع، أنها تكرّس استقلالية "الدعم السريع" وتجعل منه جيشاً موازياً للقوات المسلحة.

التوتّر السياسي في السودان بلغ مداه عقب 5 ديسمبر 2022، يوم التوقيع على "الاتفاق الإطاري"، وهو صيغة قيل إنها تهدف إلى استعادة القيادة المدنية الفترة الانتقالية وتعزيز التحوّل الديمقراطي

في الأيام الأولى من اندلاع الحرب، منتصف إبريل/ نيسان الماضي، أدلى قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بتصريحات لعدة قنوات فضائية، أوضح فيها أهدافه من الحرب، فبعدما وصف رفيقه السابق، القائد العام للقوات المسلحة، بالفاسد والمتشبث بالحكم، قال إن أول أهدافه هو القبض عليه ومحاكمته، وكان لافتاً أنه، في الوقت نفسه، زجّ أسماء اثنين من قيادات الحركة الإسلامية السودانية في أتون معركته مع البرهان!

ثمّ جاءت كل المقولات والأدبيات اللاحقة للمتمرّدين، وفي انسجام مع مقولات مجموعة المجلس المركزي في "قوى الحرية والتغيير"، تؤسّس لمفهوم محدّد، خلاصته أن قيادة الحركة الإسلامية السودانية وأنصار النظام السابق هم مَن حرّضوا قيادة القوات المسلحة على عدم التوقيع على "الاتفاق الإطاري"، وأنه يتعين تحميلهم مسؤولية بدء الحرب، بغرض قطع الطريق أمام المضي في مسار التحوّل الديمقراطي، وبالتالي، القبض عليهم جميعاً وتقديمهم للمحاكمة.

وفي الأثناء، تعرّض عشرات من منسوبي التيار الإسلامي إلى الاعتقال، وانتزعت من بعضهم اعترافات تقول إنهم هم مَن حرّضوا الجيش على شنّ الحرب، ثم توسّعت دائرة الاعتقالات بواسطة قوات الدعم السريع لتشمل متقاعدين من ضباط الجيش والشرطة بتهمة "التعاون مع الجيش"، حتى فاق العدد الكلي للمحتجزين ما يزيد على خمسة آلاف من المدنيين والعسكريين المتقاعدين، وفق ما أثبتته تقارير منظمات حقوقية. وأضاف المتحدّثون باسم قوات الدعم السريع إلى أهداف القتال الذي يخوضونه أجندات قديمة متجدّدة، تتعلق بما سمّوها إنهاء هيمنة المركز على السلطة في السودان، وهو ما اصطلحوا على تسميته "إنهاء دولة 56"، أي النظام الذي تأسّس عليه حكم السودان وقت استقلاله في يناير/ كانون الثاني 1956، وإبعاد منسوبي قبائل استقرّت منذ آلاف السنين على الشريط النيلي، عن مركز السلطة والقرار، باعتبار أنهم مَن هيمنوا على السلطة، واستبدالهم بـ"أبناء الهامش" من أبناء قبائل غربي السودان.

وجد السودان نفسه في ساحة تنافس دولي وإقليمي، وأصبحت قوى محلية جزءاً من هذا التنافس، يخدم كل واحدٍ منها طرفاً من أطرافه

ولم تفلح جهود الآلية الرباعية المكونة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، والآلية الثلاثية المكونة من الاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيغاد والأمم المتحدة (الأطراف التي أصبحت تهيمن على القرار السياسي في السودان منذ بدء الانتقال)، في تخفيف التوتر بين الأطراف المختلفة، بل، على العكس، بدا أنها جزء من ذلك الصراع، حين تبنّت كامل الرؤية السياسية لمجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير، والقاضية باعتبار كل مَن انتسب للنظام السابق أو شارك معه خارج دائرة الفعل السياسي، وفشلت كل المساعي لإقناع الآليتين الرباعية والثلاثية بلعب دورهما المتوقّع وجمع مختلف الأطراف السودانية على مائدة حوار واحدة بهدف الاتفاق على رؤية موحّدة لكيفية إدارة الانتقال والتحوّل الديمقراطي، ما عزّز الشكوك بأن أطراف هذه الآلية تسعى إلى استغلال الأوضاع المضطربة لتنفيذ أجندة خاصة بكل واحدة منها.

صحيحٌ أن لكل طرف في الآلية الرباعية انشغالاته الخاصة ومصالحه التي يرغب في تحقيقها من خلال نفوذه الذي اكتسبه عقب سقوط "نظام الإنقاذ"، فالولايات المتحدة مهتمّة بموقع السودان الجيوسياسي الممتد من ساحل البحر الأحمر إلى منطقة الساحل الأفريقي، في إطار حرصها على منافسة التمدّدين الروسي والصيني في القارّة السمراء، وبريطانيا (الدولة المستعمِرة السابقة وصاحبة القلم في مجلس الأمن)، مهتمة باستعادة نفوذها في واحدةٍ من أغنى مستعمراتها السابقة في أفريقيا، والسعودية صاحبة أطول ساحل بحري محاذٍ للسودان، والإمارات هي الشريك التجاري الأول للسودان منذ سنوات، وترغب في تعزيز هذه الشراكة بمشروعات ضخمة في مجال البنى التحتية والموانئ، وتعزيز ذلك من خلال نفوذ سياسي. وهكذا وجد السودان نفسه في ساحة تنافس دولي وإقليمي، وأصبحت قوى محلية جزءاً من هذا التنافس، يخدم كل واحدٍ منها طرفاً من أطرافه.

لم تكن بعص هذه القوى الدولية والإقليمية المتنافسة بعيدة عما حدث في 15 إبريل/ نيسان الماضي، ولعل هذا ما يفسّر لنا أنه منذ الشهر الثالث لبداية الحرب، بدأت تقارير إعلامية تتحدّث عن خشية مسؤولين غربيين من حصول قوات الدعم السريع على أسلحةٍ نوعية، وتحديداً صواريخ مضادّة للطائرات، من شركة فاغنر الروسية، التي ظلت على علاقةٍ مع قوات الدعم السريع، خصوصا في مجال التعدين عن الذهب، وراج حديث عن حصول قائد "فاغنر" يفغيني بريغوجين، في آخر رحلة له إلى أفريقيا قبل مصرعه، على كمياتٍ من الذهب بواسطة قيادات من "الدعم السريع"، كان قد التقاهم في جمهورية أفريقيا الوسطى.

ليست الحرب الدائرة اليوم لاستعادة الحكم المدني، ولا لتوطين الديمقراطية في السودان

 

وتوسعت أخيراً دائرة الاتهامات بتورّط أطراف خارجية في حرب السودان، وإمداد قوات الدعم السريع بالرجال والأسلحة، وفق ما نشرته أو بثته تقارير إعلامية، أغلبها غربية، وشملت تلك الاتهامات دولاً أفريقية في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد والنيجر، ودولاً أخرى في الشرق الأوسط، أبرزها إسرائيل صاحبة الأجندات والأطماع القديمة في السودان.

ولعلنا حين نأتي لتحديد "هوية" الحرب التي فجّرها تمرّد قوات الدعم السريع سنجد أنها تشكل خليطاً متداخلاً من هذه الأجندات مجتمعة؛ ففيها شيء من صراع المركز والهامش بحكم الشعارات التي يتبنّاها المتمرّدون أنفسهم وداعموهم، وهي ذات صلة مباشرة بأجندات القوى المدنية التي شكّلت الحاضنة السياسية للتمرّد، والمتمثلة في فرض العلمانية في إطار توصيف العلاقة بين الدين والدولة، وهي جزء من أجندات قوى إقليمية وأخرى دولية لطالما جاهرت بحربها ضد نظام الحكم الإسلامي في السودان، وأصرّت على الربط بينه وبين الإرهاب، ونذرت نفسها لمحاربة ما يُعرف بالإسلام السياسي، وأصرّت على هندسة المجتمع السوداني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وإعادة هيكلة مؤسّساته، ولو عن طريق الانقلاب والتمرّد العسكريين. وهي، في الوقت نفسه، حرب مطامع دولية وإقليمية للسيطرة على ثروات السودان الهائلة، والتحكّم في موقعه الجيوسياسي، وتوظيفهما لخدمة أجندتها في التنافس الدولي.

هي، إن شئنا أن نكون أكثر وضوحاً، حرب أميركا ضد تمدد النفوذين الصيني والروسي في أفريقيا، وهي حرب بريطانيا لاستعادة نفوذها في واحدةٍ من أهم مستعمراتها السابقة، بعدما غادرت الاتحاد الأوروبي، وهي حرب فرنسا لتصفية حساباتٍ لها مع روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، وإعادة هيمنتها على مستعمراتها السابقة، وهي حرب بعض الأنظمة العربية ضد الإسلام السياسي في السودان، ومحاولتها لكسب مزيدٍ من النفوذ فيه، وهي حربُ إسرائيل ضد خرطوم اللاءات الثلاث، وحرب العلمانيين والليبراليين السودانيين ضد التوجّهات الإسلامية في بلادهم ... هي حرب أجندات متداخلة تشكل خليطاً من هذا كله وغيره، لكنها قطعاً ليست حرباً لاستعادة الحكم المدني، ولا حرباً لتوطين الديمقراطية في السودان.