المختنقون وما تنساه السلطة في السودان
عبارة الأميركي من أصول أفريقية، جورج فلويد، التي سارت بها الركبان "لا أستطيع التنفس"، تتكرر على نحو مختلف هذه المرّة في السودان. وبدلا من وضع الركبة فوق عنق الضحية وخنقه، ها هي السلطة الانتقالية التي ولدت في ضوء اتفاق بين العسكريين والمدنيين، وأشرفت على تشكيلها تحالف قوى الحرية والتغيير الذي قاد الحراك الشعبي، تشهر سيف السلطة في وجه معارضيها، وتمنعهم من حقهم في الحديث إلى وسائل الإعلام، العمومية والخاصة، وهي السلطة التي آل إليها أمر الناس في أثر الثورة التي رفع ناشطوها شعارا تشكل مفردة "الحرية" أولى كلماته، وهو "حرية، سلام وعدالة". وتم التأكيد على ذلك في الوثيقة الدستورية التي مهرها التحالف الثلاثي الحاكم أمام أعين العالم، والتزموا فيها بأن لا قيود على حقوق الناس وحرّياتهم ما لم يخالفوا صريح القانون. والخشية أن يكون ذلك بداية تراجع عن تلك الوثيقة، والعودة إلى السلوك الشمولي الذي عابه حكام اليوم على النظام السابق، ولمّا يمض عام واحد على سقوط ذلك النظام.
وجد قطاع معتبر من القوى السياسية والاجتماعية في السودان، من غير ذنبٍ جنوه، أصواتهم مغيبة، فهم لا يستطيعون التحدث لوسائل الإعلام، العمومية والخاصة، وليس بإمكانهم ممارسة حقهم في التظاهر أو التجمع السلمي، ولا حقهم في التقاضي أمام قاضيهم الطبيعي، وإن فعلوا شيئا من ذلك، السلطة الجديدة ومناصروها جاهزون لممارسة التنمّر عليهم، ومنعهم من التعبير والتظاهر، وتدبيج التهم في مواجهتهم، وزجّهم في السجون بدون تهمة أحيانا. والسبب الذي تبرّر به السلطة الحاكمة ذلك أن هذه القطاعات من السودانيين كانوا ينتمون سياسيا للنظام السابق، أو لقوى سياسية شاركته الحكم في سنوات عهدته التي ناهزت الثلاثين. وتأسيسا على ذلك، يمكن القول إن السلطة الجديدة تبتدع تصنيفا جديدا لمواطنيها، ليس على أساس طبقي، بحسب غناهم أو فقرهم، وبالتالي أوضاعهم الاجتماعية، وليس على أساس سياسي تقليدي، بحسب موقفهم من السلطة، حاكمين أو معارضين، وإنما بحسب أهليتهم المواطنية نفسها، فهناك مواطن كامل المواطنة، من حقه أن يحكم ويعارض حكومته في الوقت نفسه، كما حدث في دعوات التظاهر إلى مليونية "30 يونيو" أخيرا، وهناك مواطن آخر ليس مرحبا به في صف مناصري الحكم ولا في صف المعارضة، والخيار الوحيد المتاح له أن يصمت، فليس من حقه حتى الاحتجاج على انتقاص حقوقه مواطنا كامل الأهلية والحقوق.
على السودان الذي يعيش حالة استقطاب سياسي واجتماعي أن يعيد فحص قدرته على رؤية القمر في ليلة تمامه
تنسى السلطة الجديدة، أو تتناسى، أن نظام جبهة الإنقاذ الوطني حين جاء إلى الحكم قبل ثلاثين عاما، ورفع الشعار الإسلامي هاديا لنموذجه في تسيير السلطة وسياسة أمر الناس، تداعى لخدمة ذلك الشعار وتأييده ملايين من السودانيين الصادقين، في حين بقي آخرون يعارضونه ويترصّدون أخطاءه، وهو الذي اختار المعيار الأخلاقي الذي يحاسبه به الناس، مؤيدين له أو معارضين، فالناس يعرفون أن الإسلام دينٌ يحض الحاكمين على بسط الشورى وإشاعة العدل وبسط الحرية وإدارة المال العام والخاص، حتى لا يكون دولةً بين الأغنياء، ويعرفون كيف على الحاكم أن يكون عفيفا نزيها. ولذلك حين تراكمت الأخطاء التي وقع فيها نظام الإنقاذ، وبانت مفارقة ذلك قيم طهارة الحكم التي يعرفها الناس، انفضّ من حوله المؤيدون، وخرج عليه المعارضون فأسقطوه. وإذا لم تعتبر السلطة الجديدة بما سبق، فستلاقي المصير نفسه، طال الزمن أو قصر، خصوصا أنها قدمت نفسها للناس البديل الذي سيأتي بنموذج حكمٍ يخالف ما كانت تعيبه على سابقتها، فتملأ أرض السودان عدلاً وحرية وسلاماً، وتبدل الفساد إلى إصلاح، وكدر العيش إلى رغد، وتعف عن مغانم السلطة، في حين أن البدايات المبكّرة جاءت مخالفةً تلك الوعود. وليس ثمّة حاجة للتذكير بأن أهل السودان الذين عُرفوا بفطرتهم السليمة ما إذا كانت قيم الإسلام كانت هي الحاكمة أم لا، يعرفون أيضاً ما إذا كانت حقوقهم السياسية والدستورية هي اليوم كاملة أو منقوصة، وأن آمالهم في وطنٍ حرّ معافى تقترب أم تبتعد، ويعرفون ما إذا كانت قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان قد أخذت تتنزل بينهم، أم أن الحاكمين الجدد يقولون ما لا يفعلون.
على الرغم من مضي أكثر من عام على سقوط النظام السابق، إلا أن التفكير السياسي لمن خلفوه يكاد يكون متوقفا في تلك المحطة، فما من متحدّث باسم السلطة الجديدة، أو من مناصريها في أية مناسبة، إلا ويستهل قوله، في أية مناسبة، بالحديث عن "التركة المثقلة" التي ورثوها عن النظام السابق، في حين لا أحد منهم يحدّثك حديث العارف عن ماهية تلك التركة المثقلة، ولا بتشخيص علمي ومهني للمشكلات والتحدّيات التي تواجه أيا من قطاعات الدولة أو من وزاراتها، ولا بما يخطط أن يفعله لتحويل تلك التحدّيات إلى فرص، وذلك العجز إلى إنجاز. ولعله بسبب هذا الأسلوب في إدارة الحكم انصرف الجزء الأكبر من جهد الحكومة الانتقالية، وحاضنتها السياسية ومجلسهما السيادي، إلى مطاردة أشباح الماضي، وتركوا تحدّيات المستقبل إلى أجل غير مسمّى. ومن الطبيعي، والحال هكذا، أن يتراجع مستوى حياة السودانيين يوميا إلى الوراء، وأن يصبح الغلاء الفاحش وتدهور الخدمات الأساسية، وفي مقدمتها خدمات الكهرباء والمياه والخبز والغاز، السمة الغالبة لحياة السودانيين، وكأنه كتب عليهم أن يعيشوا ضيقا في المعاش، وضيقا في الحقوق الأساسية في عهد ثورتهم الجديدة.
على السلطة أن تتذكر أنه حين تراكمت أخطاء نظام الإنقاذ، وبانت مفارقة ذلك قيم طهارة الحكم التي يعرفها الناس، انفضّ من حوله المؤيدون، وخرج عليه المعارضون فأسقطوه
من لا يستطيع رؤية أن على السودان، الذي يعيش الآن أزمة اقتصادية حادّة، يعيش أيضا حالة استقطاب سياسي واجتماعي أشدّ حدّة، أن يعيد فحص قدرته على رؤية القمر في ليلة تمامه. وما لم يتدارك أهل السودان، من الحاكمين والمعارضين، أزمة بلادهم المعقدة هذه (الآن الآن وليس غدا) فإنهم جميعا قد يخسرون وطنهم الذي يتغنون بعشقه، وشعبهم الذي يتصارعون لكسب تأييده؛ وأول ما يتطلبه هذا التدارك جمع الصف الوطني على الحد الأدنى من التراضي على برنامج الانتقال والتحول الديمقراطي. وأول ما في هذا الحد الأدنى أن تلتزم السلطة الحاكمة بمعاملة رعاياها على قدم المساواة، ومن دون الانتقاص من حقوقهم الأساسية، بغضّ النظر عن حبها أو كرهها أشخاصهم أو أفكارهم، خصوصا الحق في التعبير وفي التنظيم، وأن يكون القضاء الطبيعي وسيف القانون هو ما تسلطه هذه السلطة على المتجاوزين، أفرادا كانوا أو جماعات، لا سيف التصنيف السياسي والقهروالتخويف. وما لم يحدث ذلك، أخشى أن نجد أنفسنا في السودان مضطرين لنعي بلادنا مبكرا، مهما تشبثنا ببوارق الأمل.