حربٌ في العتمة
الحرب على غزّة حالةٌ خاصة لقتلٍ غير مسبوق يُرتكب بعيداً عن محاسبة عدسات الإعلام العالمي، في حين تحولت رواية حرب الإبادة مسؤولية المراسلين المحللين وفيديوهات المدنيين يصوّرون فيها موتهم اليومي. تمنع إسرائيل مراسلي الإعلام العالمي من دخول غزّة باستثناء السماح لهم أخيرا بجولات مع قواتها العسكرية، من دون أي احتكاك مع المدنيين، كما تفرض رقابة مسبقة على المواد الإعلامية قبل توزيعها. لا يزال المنع سارياً رغم النداءات المتكرّرة من منظمات الدفاع عن حقوق الصحافيين، كما لا يزال قتل المراسلين المحليين متواترا رغم نداءات بعض هذه المنظمات بالحماية والعدالة لهؤلاء الصحافيين. حتى كتابة هذه السطور، قُتل على الأقل 83 صحافياً وعاملاً إعلامياً في الحرب على غزّة من بينهم ثلاثة لبنانيين قُتلوا في قصف إسرائيلي جنوبي لبنان.
التزمت معظم وسائل الإعلام العالمية بالحظر الإسرائيلي، وهو أمر لم يحدُث في أيّ حربٍ في الزمن الراهن. لعلّ احتمال مقتل مراسليها جعل هذه الوسائل تسكُت عن مقارعة منعها من ممارسة حقها الطبيعي في التغطية الميدانية، وحقها في أن تقرّر في إطار سياساتها التحريرية إذا ما كانت تريد أن تغامر بإرسال طواقمهما إلى ميدان النزاع. أما ادعاؤها إخضاع تقاريرها لرقابة الجيش الإسرائيلي فهو أمر يستدعي التوقف عند مدلولاته، أي قبول هذه الوسائل التنازل عن استقلاليتها في رواية أحد أخطر النزاعات المعاصرة وأكثرها تعقيداً، وقبول التضييقات على الرواية الصحافية، ومنها إرغام المؤسّسات على إمضاء عقد يلزمها بالتعليمات الإسرائيلية. الغريب سكوت الإعلام العالمي عن عملية التقييد والرقابة المسبقة، في حين تشكل هذه الاستقلالية القيمة الأكثر اعتباراً للإعلام الغربي بوصفها العلامة الفارقة في تأكيد موقع هذا الإعلام ودوره بوصفه السلطة الرابعة.
يقود التغطية من الداخل المدنيون أنفسهم يصوّرون مأساة حياتهم اليومية وتحايلهم على معايشة شبح الموت على مدار الساعة
إذاً، تغيب السلطة الرابعة عن التغطية الميدانية، وتترك المهمّة للمراسلين المحليين وممثلي مؤسّسات الأمم المتحدة والفرق الطبية لنقل المعاناة الإنسانية غير المسبوقة في غزّة، بحجّة القيود الإسرائيلية والخطر الداهم على حياة مراسليها. ولعل هذا الخطر المبين الذي يفترس حيوات المراسلين المحليين في وتيرةٍ غير مسبوقة، إلى درجة إذعان الإعلام العالمي عدم المغامرة بحياة مراسليه، أحد أبرز الأدلة على ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في غزّة. يقول كبير مراسلي هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في المنطقة، جيريمي بوين، في تحقيق لصحيفة ذا غارديان البريطانية إن عدم إمكان التغطية من داخل غزّة يعيق معرفة ما يجري في الداخل، باعتبار أن لا شيء يضاهي نقل الأحداث، بناءً على المشاهدات الشخصية، بالعينين والأذنين. ويعلق مراسل القناة الرابعة البريطانية، سكاندر كرماني، في التحقيق نفسه، أن عدم إمكان الدخول إلى غزّة يحول دون إمكان مقارنة ادعاءات طرفي النزاع ومقارعتها، كما يعيق التعرّف على الحياة داخل غزّة في هذه الظروف.
في غياب تغطية الإعلام التقليدي بطواقمه وإمكاناته العريضة، يقود التغطية من الداخل المدنيون أنفسهم يصوّرون مأساة حياتهم اليومية وتحايلهم على معايشة شبح الموت على مدار الساعة. يعاون هؤلاء مدوّنون قدامى وجدد باتت رسائلهم اليومية مادّة لا للإعلام العالمي فحسب، بل لمنظمات حقوق الإنسان أيضاً. يوثق هؤلاء الانتهاكات غير المسبوقة، ويحوّلون سيرة حياتهم اليومية مناسبة لرواية يوميات المدينة التي تبدو لنا مستحيلة. نعرف أنهم لا يزالون على قيد الحياة كلما شاهدنا فيديو جديدا يوثق يوما آخر من يوميات الصمود في وجه الموت. الفريق الثالث والأساسي في التغطية هم الصحافيون المحليون الذين يتساقطون في قصفٍ يبدو مستهدفاً في حين لا يتمتّعون بأيٍّ من أنواع الحماية. تقدّم المؤسّسات الإعلامية مراسليها المحليين أنهم عيونها في الحدث، ويحتفل بعضها بصمود هؤلاء وقدرتهم على العمل في ظروف شديدة القسوة، إلا أن من غير الواضح ما إذا كان هؤلاء قد تلقوا أيّ تدريب أو دعم أو تأهيل لمواجهة ظروف من هذا القدر من القسوة والخطورة.
رغم أهمية تقارير المراسلين المحليين، أو من تبقى منهم، تغيب القصة الكاملة للحرب من داخل غزّة
في المقابل، لا نعرف الكثير عن النقاشات في مؤسّسات الإعلام العالمي بشأن القيود على التغطية الإعلامية للحرب في غزّة. هل تدور نقاشاتٌ عاصفةٌ بشأن كيفية الوصول إلى المعلومة بما في ذلك خرق الحظر الإسرائيلي بين الصحافيين في هذه المؤسّسات؟ هل من أصواتٍ معترضة؟ خرجت معلومة مسرّبة من داخل محطّة سي أن أن، الإخبارية الأميركية، تفيد أن التقارير عن غزّة تخضع لرقابة مكتب المحطّة في القدس قبل بثّها، بما يعني إخضاع هذه المواد لمقصّ الرقيب العسكري. نفت "سي أن أن" الرقابة على المواد، مبرّرة ارسال التقارير إلى مكتب القدس قبل نشرها بسياسة المحطّة في التحقق من الخبر، وبالظروف الخاصة للحرب في غزّة. أشار التحقيق الذي نشره موقع إنترسبت إلى أن المحطة الأميركية، كما سائر الإعلام العالمي، مجبرة على الخضوع لمقصّ الرقيب العسكري الإسرائيلي، بما في ذلك التقييد على ثمانية موضوعات، منها الاجتماعات الأمنية للحكومة والأخبار المتعلقة بالرهائن، والتقارير عن المعدّات العسكرية التي تمكن مقاتلو "حماس" من الاستيلاء عليها. وللحصول على تصريح صحافي، على المؤسّسات التوقيع على وثيقة توافق بموجبها على قيود الرقيب العسكري، بحسب التقرير نفسه.
رغم أهمية تقارير المراسلين المحليين، أو من تبقى منهم، تغيب القصة الكاملة للحرب من داخل غزّة. ولعل تركيز الإعلام العالمي على رواية المعاناة الإنسانية للمدنيين يجعل القدر المُتاح من التغطية كافيا لتأمين مساحات التغطية اليومية، قبل أن تتحوّل التغطية إلى مجرّد روتين يتراجع مع انفجار نزاع جديد.