حراسة أخلاق المجتمع
أثار لغطاً وسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي العراقية قرار وزارة الاتصالات العراقية حجب الموقع الإلكتروني IMDb، وهو قاعدة بيانات لأفلام ومسلسلات عالمية، وجاء في بيان الوزارة أن محتواه، كما رصدت فيه، "مسيء لنسيج المجتمع العراقي ويستهدف تقاليده وقيمه". وعلى الرغم من موجة السخرية لتفاهة هذا القرار، إلا أن الوزارة استمرّت في حجب مواقع أخرى، منها تطبيق "SoundCloud" للمحتوى الموسيقي، وللأسباب الغريبة والفضفاضة نفسها.
وكانت وزيرة الاتصالات قد انشغلت بحجب المواقع الإباحية، ولم تعلق على الانتقادات التي طاولتها بأن هذا الحجب يمكن اختراقه ببساطة ببرامج بروكسي، ولم يعترض كثيرون على مبدأ حجب هذه المواقع، فدول كثيرة تأخذ بهذا الإجراء، خصوصاً أمام المتصفّحين من الأطفال دون سنّ البلوغ الذين قد تعيق مهاراتهم المحدودة الوصول إلى هذه المواقع.
كل عمليات الحجب في واقع الحال غير مؤثرة، ولكن تقديمها يجرى على أنها منجزات للوزارة التي تقدم نفسها في هذه الإجراءات حارسة للقيم الاجتماعية، ووصيّة على اختيارات الجمهور العام، خصوصاً مع مواقع معروفة بمحتواها الإبداعي، وفي عالم لم يعد يحفل بالحجب والحظر والتقييد على المعلومة.
جديد الأخبار أخيراً أن الوزارة بصدد حجب الحوالات المالية لأرباح مستخدمي تطبيق تيك توك، بناءً ربما على مشاهدات بعض المؤثرين عليه، الذين قد يقدّمون محتوى تافهاً، ولكن الوزارة تتجاهل أن هذا التطبيق، مثل باقي مواقع التواصل الاجتماعي، يعتمد عليها كثيرون في ترويج بضائعهم ومنتجاتهم والإعلان عنها، وكذلك لترويج الخدمات الطبية. وهناك من أصحاب المشاريع الصغيرة في مجال الأكل والملابس من يعتمد كلياً على هذه المواقع في التواصل مع زبائنه المعتادين.
في بيانها الصادر في الـ29 من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، ظلت وزارة الاتصالات العراقية مصرّة على صحّة ما تقوم به من خطوات، وتطالب المواطنين بـ"عدم الانجرار وراء الحملات التي تستهدف أخلاقهم وقيمهم". وذلك فيما ديست الأخلاق والقيم في عراق اليوم بالأحذية على مدار العشرين سنة الماضية مرّة بعد أخرى، بسبب الفساد المستشري واستحلال دم المخالفين بالرأي، والكذب والنفاق والتغطّي بالدين وارتداء المحابس وتقليب المسابح في الأيدي التي لا تتورّع عن السرقة والقتل، والتزوير وإملاء الإرادات وبثّ الكراهيات الطائفية والعرقية. وإذا كانت من مهام وزارة الاتصالات حراسة الفضيلة، فعليها أولاً مواجهة هذه الكوارث الأخلاقية وتحطيم القيم الاجتماعية الذي أحدثته التيارات السياسية الماسكة بالسلطة.
ومن المؤسف أن هذه الطريقة الشعبوية والدعائية في الإعلان عن حراسة القيم والأخلاق ليست من مهامّ وزارة الاتصالات التي فشلت على مدى العشرين سنة الماضية في استعادة خدمة الهاتف الأرضي، التي قبرت مع القصف الأميركي في 2003 ولم تعد. وتحسين خدمة الإنترنت السيئة وغيرها من المشاريع المتلكئة التي تهم قطاع الاتصالات في البلاد.
كلّ هذه المهام صعبة على ما يبدو، والسهل إطلاق المفرقعات الصوتية، وإشغال الرأي العام بتوافه الأمور، في محاولة للإيهام بالعمل والإنجاز، وأيضاً لإرهاب المجتمع ومحاولة ترويضه لتقبّل شكل من أشكال الاستبداد والديكتاتورية المغلّفة بغطاء ديني.
الموضة السائدة هي الحديث بالقيم والأخلاق في بلد لا تنتمي فيه الأعراف السياسية والاقتصادية السائدة إلى الأخلاق والمبادئ والقيم، ويسعى فيه الفاعلون السياسيون إلى ترسيخ التخلّف والسلبية، وتشريع القوانين التي تقسّم المجتمع وتحجّم قدراته، ويقترحون مع كل موسم قانوناً جديداً للانتخابات، لأن القانون السابق لم يخدم هؤلاء الفاعلين السياسيين، ويخدم أغراضهم في السيطرة والتسلّط، وهو موضوع يجرى التفكير فيه حالياً بالفعل.
ليس المجتمع العراقي مثالياً، وهو يمور بخروقات أخلاقية خطيرة، تمثل انعكاساً للفشل المؤسّسي في الدولة العراقية، وهي تستحقّ البحث والرصد وإيجاد الحلول، ولكن الطبقة السياسية المنافقة وأذرعها في المؤسّسات تفضّل التغطية على المشكلات الحقيقية واختلاق مشكلاتٍ وهميةٍ تستطيع السيطرة عليها والتحكّم بها.