"حجاب الساحر" وجموح الخيال

06 فبراير 2023
+ الخط -

بعد تحليق دام طويلاً في فضاءات الشعر والنثر والفلسفة والصوفية، حاز فيه جائزة اليونسكو في الآداب عام 1995، وجائزة كفافيس الدولية في الشعر عام 1998، كما أصدر دواوين شعرية عديدة، وأعمالاً نثرية، تُرجم بعضها إلى لغات عدة، وبعد عمر من البحث والترحال والاكتشاف والقراءات المعمّقة في الموروث والفلسفة والأديان، يقتحم الشاعر والكاتب المصري، أحمد الشهاوي، عالم الرواية بجسارة وتمكّن، محقّقاً حضوراً قوياً في روايته "حجاب الساحر" (الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2022). وفي سابقة تُحسب له، يهدي العمل إلى شمس حمدي، وهي الشخصية المحورية في الرواية. وكتب في المفتتح "اعلمي أن الأرض لم تعد تبتهج لي، كأن قلبي نام في يديك، مياهك جارية تتدفق بين جنبي وهي ذخيرة حياتي، سيقف العالم طويلاً أمام عينيك اللتين علمتاني السعي إلى تغيير الأبجدية"، فيمنح وجودها بعداً إنسانياً حقيقياً، ويضفي على فضاء النص صدقاً فنياً عالياً، ويورّط المتلقّي في حالات هذه الشخصية الغامضة المركّبة المحيرة، يثير فضوله، منذ الصفحات الأولى لفكّ ألغازها، وسبر أغوارها، وكشف أسرارها. 
نصٌّ محمولٌ على متن لغة شعرية مرهفة مكثفة حالمة، غير أنها لا تعوق تدفّق النص ومرونته، بل تضفي عليه مزيداً من العمق والألق والجمال. ويبدع أحمد الشهاوي في رسم ملامح شمس تلك المرأة الغريبة المسكونة بعوالم الأسطورة والسحر والطلاسم والتعاويذ والقرابين المتحدة مع آلهة فرعونية عتيقة، تتقدّمها "سخمت"، الإلهة اللبوة التي تلقّب بالمنتقمة من المخطئين، شمس المرأة المصرية باذخة الجمال والغواية جريحة الروح، تعتنق إرث أسلافها الفراعنة القدماء وتواظب على قراءة كتاب "الخروج إلى النهار" المعروف بـ"كتاب الموتى"، ملاذاً لها من قوى الشر التي تستهدفها. 
يطرح الشهاوي، عبر تداعيات شمس، أسئلة الأنوثة والخصب والأمومة والحب والموت والبعث، وينحاز بشكل جلي للمرأة وعذاباتها الكثيرة، فيقول عمر، حبيب شمس وساحرها: "المرأة تآلفت مع الجراح منذ تجربة الولادة، وهي تتعرّض لها أكثر من الرجل، وكأنها خلقت منذورة للآلام". ويحتفل بقوتها وجبروتها وصلابتها رغم الصعوبات التي تواجه المرأة الشرقية في عالم ذكوري، يدفعها إلى التصدّي والمواجهة، رغم الإرهاق ومشاعر الخذلان والخيبة التي تعتري روحها. وتبدو معظم الشخصيات الذكورية قاسية وقبيحة. العم الذي اعتدى عليها جنسياً وهي طفلة، حبيبها الأول اليساري الفاسد، الزعيم الطلابي الذي لجأت إليه هرباً من بطش والدتها فأغواها وأقنعها بزواج عرفي سرّي، دفعت ثمنه غالياً بعد تخليه عنها، زوج أختها الذي سلبها إرثها الذي يصل إلى مئات الملايين، وزوجها السلبي البعيد عن روحها، سرد غرائبي يتمازج فيه الواقعي مع الوهمي، فيختلط الخيال بالحقيقة، يستحضر فيه الشهاوي عوالم مبهمة سحيقة في خلطة من تاريخ ملوك الفراعنة وآلهتهم وصراعاتهم وحروبهم وأساطيرهم، ويغوص عميقاً في عوالم السحر والجن والأشباح والأرواح الهائمة الغاضبة والحكايا الخرافية. يسردها بصوت "عمر"، الحبيب الذي نذر نفسه لإنقاذ محبوبته مما يحيق بها من مخاطر. وقد تعلم منذ صباه في قريته البعيدة فنون السحر وطرد الشياطين وأصول فكّ الأعمال الشريرة، يسخّر علمه في سبيل إنقاذ روح شمس المسلوبة، وفي استعادة بصمة روحها التائهة، يفعل ذلك كله من أجل الحب الكبير الذي استولى على روحه.  
يستدرجنا الكاتب بمهارة ندّاهة مسحورين إلى عالم ضبابي غامض مثير، حافل بالعجائب والمعجزات والخوارق، ما يحفز الخيال ويحقق المتعة ... "حجاب الساحر" رواية مختلفة، تباغتك وكأنها خارجةٌ للتوّ من كتاب "ألف ليلة وليلة"، وهي بدون ريب تستحقّ الكثير من الالتفات والتأمّل.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.