19 نوفمبر 2024
حاشية على شهادة البرادعي
يُسأل محمد البرادعي عمّا إذا كان يشعر بأنه أخطأ، ولو مرّة، بعد عودته إلى مصر، لمّا غادر عمله مديرا للوكالة الدولية للطاقة الذرية في العام 2009، حتى استقالته من نيابته الرئيس المصري المؤقت، في أغسطس/ آب 2013، فيجيب إنه لم يخطئ، إلا كما الجميع في ثورة 25 يناير 2011، عندما لم يشكّلوا قيادةً انتقالية بديلةً عن نظام حسني مبارك. السؤال والجواب كانا في آخر حلقات حوار معه، في برنامج "في رواية أخرى" في تلفزيون العربي، وتوقع كثيرون أن تكون شهادة البرادعي فيها أوْفى وأدقّ مما ظهرت عليه، وأكثر تخفّفا من اللغة الوعظية والمدرسية التي تبدّت أكثر من المنسوب المحتمل، خصوصا في الحلقة الخامسة الأخيرة. ولعل أهم ما يجعل لهذا النوع من البرامج أهميته أن يُبادر فيه صاحب الشهادة إلى إجراء شيء من المراجعة، ومن نقد الذات إنْ أمكن، وهو ما لم يفعله البرادعي. بل كان لافتاً إلى حدٍّ غريب، في كثيرٍ مما تحدّث عنه، أنه أجاب، في غير شأن، أنه لا يعرف عنه، خصوصا في أثناء موقعه نائبا لرئيس الجمهورية المؤقت، أي أن أمورا غايةً في الحساسية كانت تمرّ، وتُطبخ، وهو لا يُخبَر بصددها بشيء. ومن عجبٍ أنه يُدعى، في ذلك المساء الأهم، يوم 3 يوليو 2013، للمشاركة في اجتماعٍ مع وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي وآخرين، وليس في درايته أن سلطةً حاكمةً للبلاد مستجدّة ستنجمُ عن هذا الاجتماع المرتجل، والديكوري، والذي لم يستغرق أكثر من ساعة.
كان البرادعي يعرف أن مرتبطين بأجهزة الأمن، وأشباها من تشكيلات وأحزابٍ ورقية (بتعبيره)، تلملموا في "جبهة الإنقاذ" التي كان ركنا قيادّيا فيها. لا يتحدّث عن هذا الأمر الآن من باب المراجعة، أو استعراض أخطاء وقع فيها مثلا، وإنما من باب أن هذا تفصيل ثانوي، أو من لزوم ما يلزم. وكان الظن أن البديهيّ والطبيعي أن البرادعي هو الأكثر إدراكا أن قوى النظام القديم كانت تتوثّب لتزبيط ثورةٍ مضادّة على نواتج ثورة يناير، من أجل أن تستعيد مواقعها وامتيازاتها ونفوذها، وهو ما لا صلة له بموقفٍ من الرئيس، محمد مرسي، أو جماعته الإخوان المسلمين. كما أن النزوع الليبرالي الذي يقيم عليه البرادعي كان يُفترض أن يجعله "يستشعر" أنه لا معنى لتولّي ضابط في موقع وزير الدفاع قيادة انعطافةٍ انتقاليةٍ من سلطةٍ إلى أخرى سوى تسميته انقلاباً، وأنها انعطافةٌ لن تكون نحو الذي كان يشتهيه البرادعي، أي تحقيق مطالب ثورة يناير.
ومع كل الاحترام للسّمت الإنساني الذي يتصف به الرجل، ومع التنويه بمناقبيّته عندما يعترض على فضّ الاعتصام في ميدان رابعة العدوية بقوة السلاح، الأمر الذي جعله يغادر منصبه نائبا لرئيسٍ لا يرأس شيئا، فإن مجزرتين مروّعتين، تم فيهما استسهال استخدام الرصاص، في أثناء شراكة البرادعي في سلطة 3 يوليو، ويبقى صمته بشأنهما مثار استهجان قائم، وقد فات على المذيع خالد الغرابلي أن يسأل ضيفه في خصوصهما. والإشارة هنا إلى مقتل 61 شخصا (بحسب مصلحة الطب الشرعي) أمام مقر الحرس الجمهوري في القاهرة بعد خمسة أيام من ليلة خريطة الطريق تلك، وكان الضحايا آمنين يؤدون صلاة الفجر. وعلى طريق النصر، كانت حادثة المنصة التي قضى فيها نحو مائة شخص من أنصار الرئيس مرسي، في عملية إطلاق رصاصٍ عليهم، وكأنها حرب، وذلك يوم 27 يوليو. أكّدت تلكما الجريمتان أن مقتلة يوم رابعة العدوية قادمة.. سكت البرادعي، وما زال ساكتا، مع أن مقادير من المسؤولية والإدانة تلحق به بشأنهما. أما حديثه عن سعيه إلى تأمين خروج مرسي إلى دولةٍ خليجية، فلو لم يخبرنا بهذا الأمر لربما كان أفضل له.. كيف يتوّقع أن مرسي سيقبل أمرا مثل هذا رفضه، مثلا، مبارك؟!
للمعارض المصري البارز أن يكتفي، الآن، بالنصح وتقديم عظاته في "تويتر"، وهو صاحب تجربة ووجهة نظر، لكنه يغرق في أوهامٍ لا نستحسنها لشخصه الرفيع المكانة، إذا ظنّ نفسه محمد البرادعي الذي كان يجهر بمواقفه واجتهاداته وانتقاده، في غضون سلطة المجلس العسكري بعد ثورة يناير، وقبل انتخاب مرسي... ذاك البرادعي الذي يُشتاق إليه ليس هو "المغرّد" الراهن.