جمهورية الديكتاتور
ينهل الرئيس التونسي، قيس سعيّد، بشغف من دليل الديكتاتوريات. لا يمر يوم، منذ 25 يوليو/ تموز 2021، تاريخ بدء الانقلاب رسمياً على النظام السياسي والدستور في تونس، من دون أن يتولى هو شخصياً، أو عبر أزلامه في السلطة، ابتداع إجراءات قمعية جديدة. تعطيل الحياة البرلمانية، الانقلاب على الدستور ومؤسسات القضاء، استهداف القضاة ورميهم بالتهم جزافاً، ملاحقة الإعلاميين ومنع ظهور المعارضين على الشاشات، إطلاق يد المحاكم العسكرية، ذلك كله يبدو غير كافٍ بالنسبة إليه، ولن يكون وافياً قبل تحقيقه هدفه "الأعلى". يجتهد سعيّد لإرساء جمهوريته الخاصة. تلك التي يتحكم فيها بجميع السلطات، يتحوّل فيها الجميع إلى مجرّد دمى ماريونيت، يحرّكها كيفما يشاء، يميناً أو شمالاً، تكتفي بإطاعة أوامره. لا يريد صوتاً آخر غير صوته. يعتقد أن الدستور الجديد الذي يعدّ له الصادق بلعيد سيحقق له ذلك متى ما أنجز الاستفتاء بشأنه الشهر المقبل.
أخذ بلعيد، الذي يؤدّي دور الواجهة بشكل متقن، على عاتقه تمرير فحوى بنود مسوّدة الدستور، وإنْ على جرعات، ببساطة لأن "الهيئة الاستشارية من أجل جمهورية جديدة" لم تنته بعد من إنجازها في الموعد المحدد لها في 13 يونيو/ حزيران الحالي. وستكون الأيام الثلاثة المقبلة حاسمةً لمعرفة ما إذا كانت ستسلم "الهيئة" مسوّدتها إلى سعيّد في 20 يونيو، كما هو مقرّر، لينشر الأخير عقب ذلك بعشرة أيام النسخة النهائية التي سيعتمدها، تمهيداً للاستفتاء على الدستور بـ25 يوليو المقبل في ذكرى مرور عام على الانقلاب.
تحدّث بلعيد بداية عن تغيير البند الأول الذي يشير إلى مرجعية الإسلام، ظانّاً أن النقاش حول هذه النقطة سيكون الأعلى والأكثر هيمنة، فتمرّ باقي التفاصيل بصخب أقل. لم تكد تمضي أيام حتى بشّر بلعيد بقرب نهاية عهد السلطة التنفيذية، تمهيداً لبدء عهد "الهيئة الحكمية"، يختار الرئيس رئيسها من دون أن يكون ذلك مشروطاً بأن ينتمي إلى الحزب الفائز بالأغلبية البرلمانية، فحتى حكومة شكلية على غرار التي تقودها نجلاء بودن حالياً ليس ممكناً القبول باستمرارها. وفي الحديث نفسه، لخص بلعيد كل الفكرة قائلاً: "دور رئيس الجمهورية سيكون في المقابل أعلى من الهياكل الدستورية والهياكل الحزبية".
هكذا يتصوّر سعيّد نفسه فوق الجميع، الشعب والمؤسسات والهيئات والأحزاب والمنظمات، لكنه عملياً يدرك أنه ليس كذلك بعد، يفصله عن تحقيق ذلك عقبات عدة. و"الحوار الوطني" الذي عقده أخيراً أظهر ذلك بوضوح، إذ كان سعيّد عملياً يحاور نفسه، بعدما امتنعت غالبية القوى الحزبية والنقابية، ممن يعتبرها مرضيا عنها وتنازل وقدّم لها دعوة، عن المشاركة... ولا تزال المعارضة، على خلافاتها، قادرةً على الوقوف في وجه مخطّطاته، وأقله التصويب عليها، سواء عبر مواقفها أم من خلال الشارع.
يعي سعيّد خطورة اتساع هذه الجبهة. ولذلك يبدو أكثر المستفيدين من عدم قدرة المعارضة على تجاوز خلافاتها وحساباتها الضيقة. ولذلك، كلما شعر بالاطمئنان لتشتتها، خطا خطوة إضافية باتجاه إرساء جمهوريته. وكلما استشعر خطراً قلّل من سرعة اندفاعه، أو أشهر إحدى أدوات ترهيبه، على غرار الرسالة التي تكلّف نائب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، ماهر الجديدي، بإيصالها، قبل أيام، عندما أشار إلى إمكانية ملاحقة الأحزاب والائتلافات التي تقاطع الاستفتاء قانونياً، "لأنّ أفعالها ستصنف كجرائم حق عام وليست جرائم انتخابية".
في شهر فبراير/ شباط الماضي، دافع سعيّد عن نفسه وممارساته، قائلاً، على هامش مشاركته في القمّة الأوروبية الأفريقية في بروكسل: "مثلما قال الجنرال ديغول ليس في هذا العمر أبدأ مسيرة ديكتاتور". لكن التجربة أثبتت أن "مسيرة الديكتاتور" ليس لها أي علاقة بالعمر، بل بلحظة الوصول إلى كرسي الحكم وما يجري بعدها.