جمعة يتيمة بدون "الجزيرة"
يتعامل معسكر الانقلاب في مصر مع موضوع إيقاف بث "الجزيرة مباشر مصر" باعتباره انتصاراً، أو عبوراً جديداً، يضاف إلى سلسلة "فانتازيا العبور" التي تغذيها ماكينات الدجل في امبراطورية جنرالات الخرافة التي تأسست في الثلاثين من يونيو/حزيران 2013.
وعلى الرغم من تصدع جدران هذه الإمبراطورية، وانكشاف أكاذيبها القومية، في مناسبات عدة، إلا أن جوقة المشعوذين العاملين فيها لا يكفون عن الهتاف بأناشيد الانتصارات الوهمية، من دون وجل أو خجل، وكأنهم مطمئنون إلى أن وعياً جماهيرياً قد خرج ولم يعد ولن يعود.
وعلى سبيل المثال، ما فتئت ماكينة الدجل تغني للنصر المؤزر الذي حققه المسكين الذي ألبسوه زي اللواءات، وفرضوه نجماً على الشاشات، متحدثاً ومبشراً بالفتح العلمي العسكري غير المسبوق، المتمثل في اختراع مجنون، يقضي على مشكلتي المرض والجوع في عملية واحدة، تقوم على تحويل الفيروسات التي تأكل أكباد المصريين، مثل فيروس سي والإيدز، إلى ثروة غذائية، تسمن من جوع وتشفي من وجع.
والآن، وقبل خمسة أيام فقط من موعد إطلاق "القمر عبد العاطي"، وهو الموعد الذي تأجل غير مرة، ها هم يرحّلون فضيحة القرن العلمية إلى أجل غير مسمى، بحجة أنه لا توجد بنية علمية وطبية تساير هذا الإعجاز الفريد، في محاولة يائسة لإخفاء هذا العار الحضاري الذي أضحك العالم وأبكاه في آن.
لقد كان واضحاً، منذ بداية الهذيان القومي عن هذا الكشف المعجز، أن غاية المراد منه تعبئة الوعي الجمعي بأسطورة عسكرية، تتجاوز، في فرادتها، جميع الانتصارات الميدانية السابقة، بحيث يظهر الجنرال في ثوب البطل الاستثنائي الذي جاء وفي يده العصا السحرية التي تلقف كل أوجاع المصريين الصحية والاقتصادية والسياسية، من خلال ثالوث الأساطير، العلاج بالكفتة وحفر قناة والانتصار على قناة الجزيرة.
وفي لحظة معبأة بغبار الانتشاء بهذه الانتصارات الأسطورية (الوهمية)، يجد رافضو الانقلاب أنفسهم، اليوم، أمام اختبار ثوري عصيب، كونها جمعتهم الأولى في ظل غياب رئتهم الإعلامية الوحيدة التي كانت تنقل فعالياتهم وتظاهراتهم للعالم، الأمر الذي يضعهم أمام سؤال مصيري: هل ثورتهم الغاضبة نتيجة للحفاوة الإعلامية، أم سبب لها؟
بصيغة أخرى: في ظل هذه الغابة الكثيفة من التحركات الدبلوماسية والمفاوضات العلوية والسفلية والتسريبات الخاصة باتصالات وترتيبات سرية تستهدف شطب المسار الثوري، لمصلحة فرض مسار التسوية السياسية، تحت ضغوط إقليمية ودولية، هل سيخفت الحراك وتنطفئ شعلة الغضب المتواصل منذ 18 شهراً بإصرار نادر وصمود منقطع النظير؟
وبصيغة ثالثة: ما مصير الجهود التي انطلقت عقب حكم تبرئة حسني مبارك ونظامه لإعادة الاصطفاف الثوري، وتحقيق الحد الأدنى من التوافق، والتوحد بين فرقاء معسكر يناير لمواجهة غطرسة وانتقامية دولة مبارك العميقة؟
أعلم أن هذه الجهود التي قطعت شوطاً معقولاً على طريق التوحد تجد نفسها في مهب رياح تفاوضية عاتية هذه الأيام، وهناك من ينشطون، الآن، لمحاصرة الثوري، لصالح السياسي في محاولة لتهدئة الغضب المتصاعد بصورة ملحوظة، كلما اقتربت لحظة إحياء ذكرى ثورة يناير، غير أن مصر لم تعدم ثوريين أصلاء، يدركون أن تجربة الثمانية عشر شهراً الماضية أسقطت كل الأكاذيب والأوهام الخاصة بمحاولة فرض مزاوجة غير منطقية أو أخلاقية بين ثورة وانقلاب جاء في عباءة ثورة مضادة.
ويبقى أن تعريف الانقلاب يظل مرهوناً ببنيته الفيزيائية والكيميائية، ولن تستطيع أطنان من المساحيق الدبلوماسية العالمية والمحلية في إخفاء معالمه. وهذه جذوة الصمود الثوري متقدة في شوارع مصر وميادينها. فماذا يفعل الغاضبون، والأهم كيف ستسلك السلطة المدججة بالحمق في هذه الجمعة اليتيمة التي تأتي بلا غطاء إعلامي؟