جمعة غضب ضد كنز استراتيجي جريح
لا أظن أن مصر عرفت خمسة أيام من الغضب المتواصل، المتنامي، في محافظات عدة، منذ توقفت التظاهرات المناهضة للانقلاب العسكري في العام 2015.
توقفت وسائل إعلام عبد الفتاح السيسي، منذ يومين، عن هستيريا الإنكار، لتبدأ فورًا هستيريا الخوف والفزع، باستخدام أقذر أنواع الأسلحة، من نهشٍ في أعراض الداعين والمؤيدين للتظاهر، مرورًا بإهانة الدين فوق الشاشات من خلال متحدّثين يتم تقديمهم بوصفهم رجال دين، بينما هم إلى أطقم الحراسة وخفراء قصور السلطة أقرب، وليس انتهاء بالكذب على الجماهير بالأرقام والصور والتصريحات المزيفة.
اليوم، مصر على موعد مع يوم جمعة مختلف، ربما لم تشهد مثله منذ خمس سنوات، مع وصول غضب الجماهير الحالمة بالحرية والعدل والكرامة والعيش الكريم إلى محطته السادسة، في رحلةٍ باتجاه مجرى نهر النيل، قادمًا من الجنوب إلى الشمال، عبر جداول وقنوات صغيرة في مختلف المناطق، معلنًا عن جمعة غضبٍ تصبّ فيها كل الفروع المتفرقة حمولتها في مجرى واحد كبير.
في هذه الأثناء، تشير التوقعات إلى أن نظام عبد الفتاح السيسي في طريقه إلى حشد مضاد لتحريك تظاهرات ضد الشعب المصري الحقيقي والبسيط الذي انتفض في القرى والمدن الصغيرة.
هي العقلية الأمنية البليدة ذاتها التي أراقت دماء المصريين بدءًا من موقعة الجمل في فبراير/ شباط 2011، والتي تعتمد أسلوب الاحتراب المجتمعي، وضرب الشعب بالشعب، وهو الأسلوب الأشد انحطاطًا، والذي تتخذه السلطة منهجًا منذ استولت على الحكم بجريمة ضد الإنسانية شهدها العالم صوتًا وصورة في "رابعة العدوية" وغيره من ميادين الاعتصام ضد انقلاب عبد الفتاح السيسي.
في ضوء المتوفر من أنباء بشأن استعداد أجهزة عبد الفتاح السيسي لإقامة مهرجان تأييد صاخب له، تضع في صدارته الفنانين والفنانات والسياسيين والمثقفين، فإننا نكون بصدد لحظة عبث سياسي، لا تجدها إلا في البلاد المنكوبة بالطغيان، تقوم فيها السلطة بتنظيم تظاهرات ضد الشعب، ومندّدة بمطالب الجماهير، وهي لحظة تكون مفتوحة على كل الاحتمالات السيئة، حين تصاب الحكومات بلوثة الانتقام من الشعب، الذي تجاسر وخرج يهتف برحيلها.
تبني سلطة عبد الفتاح السيسي حملتها ضد الجماهير على أكذوبة ترددها أبواقها طوال الوقت عن أن كل تظاهرة غضب ضد النظام هي مؤامرة خارجية تدبرها قوى شريرة تتربص بالوطن .. وأن الوطن سيضيع لا محالة لو أن التظاهرات استمرت والنظام سقط.
فزاعة ضياع مصر لم تعد تقنع أحدًا، ذلك أن الجماهير باتت على يقين بأن الضياع الحقيقي هو ما يفعله السيسي بالبلاد، داخليًا، وخارجيًا.
على مستوى الداخل، يتبنى سياسات اقتصادية وأمنية تقضي على مفهوم المجتمع الواحد، المتجانس، برغم الفوارق الطبقية، ويؤسس مجددًا حالة مجتمع الصفوة متناهية الصغر التي تستحوذ على موارد البلاد بشكل كامل تقريبًا.
وعلى الصعيد الخارجي، يستقر في ضمير كل مصري حقيقي ووعيه، أن مصر تضيع فعلا وقولا عندما تضل الطريق إلى فلسطين، في الوقت الذي تعرف فيه الطريق إلى العدو الصهيوني جيدًا، ولا تسير إلا فيه.
في هذه الأجواء الملبدة بغيوم الهستيريا والهلوسة، ثمّة مؤشّرات على أن منسوب الفزع عند نظام السيسي هذه المرة أعلى من ذي قبل، ليس فقط للتغيرات الهائلة في كيمياء الغضب، والبنية الاجتماعية للجماهير المنتفضة، وإنما أيضًا، لاستشعار هذا النظام أن قيمته السوقية قد انخفضت في عالم السياسة الإقليمية، وأن الوظيفة التي كان يؤدّيها لم تعد مهمة بالقدر الذي يجعل المجتمع الدولي، يغض الطرف عن سلوكيات إجرامية يرتكبها ضد شعبه.
من الواضح أنه بفرض الكيان الصهيوني نفوذه وهيمنته على عواصم عربية بالجملة، فإن وظيفة "الكنز الاستراتيجي" التي كان يشغلها حسني مبارك، ثم ورثها عبد الفتاح السيسي، لم تعد ذات أهمية، كما لم تعد تستحق المدفوع فيها، بعد ظهور الكنز الاستراتيجي الجديد، في أبوظبي، وهو الأقل كلفة، والأكثر فائدة للكيان الصهيوني والإدارة الأميركية، بل أنه على استعداد لانتشالهما من أية تعثرات مالية أو مشكلات اقتصادية.
لم يعد ذلك المعسكر في حاجةٍ إلى وسائط أو جسور يعبر فوقها إلى عمق الخليج المتشبع بالثروة، والرغبة في العناق مع المشروع الصهيوني. وبالتالي، حان الوقت لتجاوز الكنز الاستراتيجي القديم، المتهالك، المكلف، واستبداله بكنز صاعد ومتوثب للعطاء ولعب ما يطلب منه من أدوار.
تقريبًا، وضع يشبه خريف أنور السادات، بعد أن حصل منه المشروع ذاته على كل ما يريد، ولم تعد لدوره في نهاية تلك المرحلة من اللعبة تلك الأهمية التي كان عليها في بدايتها.