جسم الذكر لبّيس

30 يناير 2021

(جبر علوان)

+ الخط -

مخيفة الحكايات التي تنشرها الصفحات والمدونات الخاصة بقضايا التحرّش، (خصوصا صفحة حكايات/ المدونة)، وملفتٌ أن هناك حكايات شبه يومية عن التحرّش الذي يتحول أحيانا إلى محاولاتٍ حقيقية للاغتصاب والانتهاك الجسدي، وهي حكاياتٌ ترويها ناجياتٌ من تلك المحاولات، أو تروى عنهن تحت صيغة (نقل عن صديقة تخشى الكلام)، وهو أمرٌ مفهومٌ بالنظر إلى جو الرعب الذي تعيش فيه بناتنا منذ صغرهن، بكل ما يتعلق بأجسادهن، وبموضوعة الجنس. وبالنظر إلى الغموض والخوف اللذين يحيطان بعلاقتهن بالذكر، بما في ذلك ذكور العائلة من إخوة وآباء، (حكت لي طبيبة نفسية صديقة عن إحدى مريضاتها، اكتشفت بعد مدة من العلاج أن هذه المريضة يغتصبها أخوها يوميا، ووالدها ووالدتها على علم بالأمر، وتبرير الوالد لهذا الإجرام: "الولد عندو شهوات، أحسن ما يطلع لبرا ويعمل لنا مشاكل ما قادرين نحلها"). هذه الحادثة في بلد لا حقوق فيه للنساء، وقوانينه التشريعية لصالح الذكر دائما، حال معظم بلادنا العربية التي تنتشر فيها جرائم سِفاح القربى، وتبقى ضمن المسكوت عنه، اجتماعيا وقانونيا.
لست ناشطة نسوية، ولم أكن يوما كذلك. أنا كاتبة، وبهذه الصفة التي أحملها، من الطبيعي أن تكون قضايا المرأة جزءا من قضيتي، فأنا أولا امرأة، وكنت شابّة ذات يوم، وتعرّضت للتحرش من ذكور عديدين، منهم أصدقاء مثقفون، ومنهم أصدقاء أطباء كنت ألجأ إليهم في حالات المرض، ومنهم أصدقاء لوالدي كنت أعتبرهم أمثلة، وآخرون كثر في الشارع والجامعة. (أذكر ذات يوم كنت أقدّم امتحانا جامعيا، وكان مفروضا علينا لبس البدلة الزرقاء في الجامعة، للبنات التنورة وللشباب البنطال، والجاكيت موحدة، وأنا غارقةٌ في الإجابة عن الأسئلة، لم أكن منتبهة إلى طريقتي في الجلوس، لأصدم بأحد المراقبين يأتي ويضع يده على فخذي وهو يقول: ضبي رجليك يا...). أتذكر أنني تركت الامتحان، وهربت من القاعة، ولم أتجرّأ على ذكر ما حدث لأحد، على الرغم من أنني من بيئة منفتحة اجتماعيا، مثلما لم أتجرأ على ذكر أيٍّ من حوادث التحرّش العديدة معي. وأعلم أن أختي وابنتي تعرّضتا مثلي لحوادث تحرّش ولم تخبرا أحدا عنها، ككثيرات مثلنا في هذه المجتمعات العظيمة التي عشنا ونعيش فيها.
"جسم الذكر لبّيس" في قضايا التحرّش. ويمكن تصديق أية حكاية تُكتب عن هذا الموضوع، حتى لو كان بطلها شخصيةً عامة ومحترمة في نظر المجتمع، إذ دائما ثمة ما هو مخفي في شخصياتنا، دائما ما تنطوي نفوسنا على شخصياتٍ أخرى تعيش معنا، تظهر في أوقات معينة، وتجعل من يعرفنا عرضةً للشك بما يرى أو يسمع، ولكن هذا يستدعي أيضا بعض الموضوعية، فالأمراض الاجتماعية المهولة تركت أثرها أيضا على الفتيات والنساء. العلاقة المرتبكة مع الجنس الآخر تجعل الشعرة بين التحرّش والتصرّف الطبيعي، كالإعجاب والغزل اللطيف، واهية جدا، وتجعل المخيلة تسرح وتمرح، ومع المنبر الحر والمتاح للجميع (وسائل التواصل)، يمكن تحويل قصةٍ عاديةٍ جدا، وتحدُث يوميا، إلى حكاية تحرّش أو محاولة اغتصابٍ تعرّض المتهم لشبهةٍ قد تقضي على حياته الاجتماعية والعملية والأسرية، خصوصا أن معظم ما يُكتب غير مدعّم بأي سندٍ ملموس، هو حكايةٌ مرويةٌ من فتاةٍ لا اسم لها، (الذريعة دائما هي الخوف)، والمتهم شخصية معروفة.
مرّة أخرى، نحن مضطرّون لتصديق ما كتب بسبب ما يتيحه المجتمع للذكر من حرية الإجرام الجنسي من دون عقاب، ولكن هذا لا يعني أن النساء لا يختلقن قصصا، رغبة في الانتقام، أو تفسيرا خاطئا لتصرّف عادي. قرأتُ على مدوّنة حكايات عن شخصية معروفة مكتوبة بلغة "ذكر"، وأنا الكاتبة أستطيع معرفة لغة الأنثى من لغة الذكر، هل ننفي دور الحسد والغيرة أيضا بين أصحاب الكار الواحد واستغلال هذه المدوّنات لتشويه سمعة من نحسده أو نحقد عليه لأي سبب كان؟ أستطيع الآن أن أكتب خلال ساعتين خمس حكايات على الأقل بخمسة أسماء مستعارة عن خمس شخصيات معروفة، وأرسلها إلى المدونة، أين الحقيقة في هذا كله؟
يجب أن نعترف أنه بقدر ما ساعد فتح ملف التحرّش على كشف المستور، بقدر ما يحمل من خطورة وإساءة قد تكون مقصودة بحق بعضهم، إذ لا قرائن سوى الحكاية نفسها. وشخصيا أرى أن على الحركات النسوية في بلداننا السعي نحو الضغط لإقرار قوانين تحمي الضحية اجتماعيا وقانونيا وتعاقب المذنب، واستغلال هذا الكشف في العالم الافتراضي لذلك، بدل أن تتميع القضية، ويصبح الجميع عرضةً للإساءة من دون أية قرائن حقيقية.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.