في العقل المُؤسَّس على ثنائيات قاتلة
بعض ما كشفه الإجرام الصهيوني على لبنان، واستهدافه قيادات حزب الله وعناصره ومقارّه، وبعض القيادات الفلسطينية، واعتداؤه على الجنوب اللبناني، واستباحة سماء بيروت بلا توقّف، عدم قدرة العقل العربي على الخروج من ثنائيات يمكنها أن تكون قاتلة. أو دعونا نقول إنّها بالفعل قاتلةٌ منذ تكريسها في الوعي الجمعي العالمي إثر أحداث 11 سبتمبر (2001)، حين قسّم جورج بوش (الابن) العالم: معنا وضدّنا. وناسب هذا التقسيم العقلَ العربي ذا البنية التقديسية التي تفصّل الوجود على مقاس المُقدَّس، فلا يوجد شيء خارج المُقدَّس ونقيضه، وكلّ من يرى في منظارٍ آخرَ مصيره التكفير الديني والمجتمعي والسياسي. فإذا كان جورج بوش البراغماتي قد قسّم العالم مع وضدّ لتعزيز السياسة الأميركية وتحالفاتها، فإنّ العقل الجمعي العربي يفعل هذا (عن وعي أو عن جهل) لخدمة الاستبداد والطغيان بأشكاله كلّها.
بات من النوافل القول إنّ القتال إلى جانب بشّار الأسد لحماية نظامه من السقوط بعد 2011، كان بمثابة الانتحار لحزب الله جماهيرياً وسياسياً، وأمنياً (كما اتضح أخيراً). ومن نافل القول أيضاً إنّ علاقة السوريين بحزب الله لم تكن عاديةً قبل 2011، بل كانت علاقةَ تقديس بكلّ معنى الكلمة؛ فالسوريون الذين تربّوا على الإيمان بالفكر العقائدي الذي يرى أنّ المقاومة هي السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، وجدوا في حسن نصر الله الزعيم المطابق لفكرتهم عن الزعامة، كاريزما قويةً مع خطاب ديني كان في بداياته متوازناً، ويتناسب مع الوسطية الدينية التي يعتمدها السوريون، مع إنجاز تحرير الجنوب من العدوّ، وتحقيق معادلة توازن الرعب معه لاحقاً. لم يكن أحد يتجرّأ وقتها على التعرّض علناً لحزب الله ولو بنقد بسيط، كان ذلك سوف يعرّضه مجتمعياً للاتهام بالعمالة. لكن هذا كلّه سقط مع أول طلقة أطلقت من بندقية حزب الله تجاه السوريين، حتّى وصلنا إلى الشماتة والتهليل بمقتل نصر الله وقيادات في الحزب بيد إسرائيل. هذا ليس طبيعياً حتماً، لكن أيضاً لم يكن طبيعياً الطلب من السوريين نسيان ما حدث لهم، والتعامل مع مصير الحزب كما لو أنّه لم يكن أحدَ أسباب الوضع السوري الحالي. وهنا تجلّى العقل الثنائي بكل وضوح: كان الفرح بمقتل قيادات الحزب مبالغاً فيه إلى درجة أنّ أصحابه اعتبروا كلّ من طالب بالتريّث ورؤية الحدث من كلّ أبعاده، متواطئا مع النظام السوري وحلفائه في قتل السوريين؛ وفي المقابل فإنّ فئة أخرى وجدت في المطالبين بالتريّث والمتحدّثين عن جرائم حزب الله في سورية، وضرورة فصل ذلك عن دوره المقاوم، عملاءَ متخفّين للعدو ومتصهينين جددا هدفهم حرف النضال ضدّ العدو عن مساره. نحن إذا أمام خطابَين متناقضَين كلاهما مرتفع النبرة، وكلاهما يعتمد خطاب التخوين، وكلاهما لا يتوقّف أو يهدأ ثانيةً واحدةً ليتأمل داخله ويرى إن كانت مشاعره تحمل القليل من التناقض والتشويش أو كثيره، والقليل من المرونة في الالتفات لرؤية الحدث ضمن سياقات سياسية واقتصادية متعدّدة تركت ختمها على جسد العقد الماضي في سورية ولبنان معاً.
لا يختلف الحال مع اللبنانيين، خصوصاً مُوالي حزب الله، فهم يطلقون سهم التخوين والتحريض على القتل ضدّ كلّ صوت لبناني يخالف خطابهم الموحّد والوحيد، رغم كل ما يحصل اليوم للحزب وللمقاومة وللبنانيين جميعاً؛ مُجرَّد تصفّح سريع لصفحات بعض هؤلاء في مواقع التواصل الاجتماعي، ومنهم مثقّفون وكتّاب وشعراء، يكفي ليدل على مقدار التبسيط والاستسهال الذي يتناولون به قضيةً في غاية الخطورة والتعقيد والنتائج كقضية استهداف ما يتعلّق بحزب الله كلّه من العدو.
فات هؤلاء المتمترسين خلف ثنائياتهم القاتلة أنّ حدثاً كهذا لا يمكن التعامل معه بمعزل عن تناقضات الهُويَّة واضطرابها في مجتمعاتنا العربية، وأنّ حالات العقل يمكن تحليلها من خلال سلوك متراكم ومن خلال المؤثّرات المحيطة، كما أنّ للعقل حالاته الداخلية وتفاعلاته المثيرة التي تختلف وتتفق في الوقت ذاته، وهي الحركة التي تسبب تناقضها وتظهره للعلن؛ أمّا اليقين الذي يُظهره هؤلاء في التعامل مع الاعتداء الإسرائيلي ونتائجه، والقطعية في فهم الحدث، وفي التخوين والقتل المعنوي للمختلف، فهي ليست سوى تعبير موارب عن الشعور الدفين بهزيمة يرفضون الاعتراف بها في وعيهم الآني.