جرائم إبادة أمام عيون العالم
الإبادة الجماعية هي التدمير المتعمّد والمنهجي لمجموعة من الناس، بسبب عرقهم أو جنسيتهم أو دينهم أو أصلهم. ظهر المصطلح أول مرّة لوصف فظائع الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية، ففي عام 1943، صاغه المحامي اليهودي – البولندي رافائيل ليمكين لوصف القتل المنهجي لليهود في ألمانيا النازية. وكان قد فقد جميع أفراد عائلته باستثناء شقيقه في "الهولوكوست"، ما مهّد الطريق لاعتماد اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية في 1948، والتي دخلت حيز التنفيذ في 1951.
تعرّف المادة الثانية من الاتفاقية الإبادة الجماعية بأنها أي فعلٍ "يُرتكب بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعةٍ على أسسٍ قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية". وفي التفاصيل، قتل أعضاء من الجماعة يعني إبادة جماعية، وإلحاق أذىً جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة هو إبادة، وإخضاع الجماعة، عمدًا، لظروفٍ معيشيةٍ يُراد بها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا، وفرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، كلّها مشمولة بهذا التعريف.
على مرأى العالم كله، أنظمة وشعوبًا، تقوم إسرائيل بشكل منهجي وموصوف بكل هذه الفظاعات، وتتفنّن في أدائها وابتكار طرق جديدة في أشكال الإبادة، بادّعاء تحقيق هدفها الأساس المعلن من الحرب: القضاء على حركة حماس، متّبعة كل ما يخطر في البال وما لا يخطر، من دون رادع، ومنها قصف المستشفيات التي تئنّ ببناها التحتية ومستلزماتها الطبّية وكوادرها الصحية، وتجاهد، في الحد الأدنى هذا، من أجل القيام بواجبها الموجودة من أجله، ومواجهة الموت الذي ترميه إسرائيل من البرّ والجو والبحر على رؤوس الفلسطينيين. وجديد ما استخدمته إسرائيل لإقناع العالم بحقها في قصف المستشفيات التي يلوذ بحماها أيضًا الفارّون من تدمير بيوتهم فوق رؤوسهم، وإحداث مقابر جماعية تحت ركامها، أن تنشر مشاهد مصوّرة من السماء تقول فيها إنها فتحات أنفاقٍ تستخدمها "حماس" تحت المستشفيات، علمًا أن الجنود كانوا في محيط مستشفى حمد بن خليفة، الذي تعود الصور من السماء إليه. وكان في وسعهم التقاط صور أرضية أكثر وضوحًا وإقناعًا للرأي العام، فيما لو كان ادّعاؤها صحيحًا، فلماذا لا ترسل الأمم المتحدة لجانًا لتقصّي الواقع والحقيقة، كما طالب متحدّث إعلامي باسم "حماس"، موضحًا، بتصريح الشركة التي أشرفت على الإنشاء، أنه فتحة لتخزين الوقود؟ لماذا لم يصوّروا ما في داخل هذه الفتحة؟ وقالت إن هناك محطّات لإطلاق صواريخ من حماس، ولم تصوّر عن قرب، والجيش موجود بقرب المكان، فهل يمكن أن تكون منصّات إطلاق بهذا السفور والانكشاف؟ لم يعد خافيًا، بالنسبة إلى متابعي الحرب الإسرائيلية على غزّة، أن ما ترمي إليه إسرائيل هو الترحيل (ترانسفير) بحقّ الفلسطينيين، فهي تقطع الاتصالات بالمطلق، كي لا يطّلع العالم على ممارساتها، وكي تقطّع أوصال المناطق في غزّة، وتقضي على أكبر مساحة من الحياة.
تتحدّث السلطات الإسرائيلية منذ فترة عن أنفاق تحت المستشفيات لتبرير استهدافها إياها، لذلك قسّمت قطاع غزّة بين الشمال والجنوب، وللضغط على المدنيين لأجل الهروب باتجاه الجنوب، فالمستشفيات تؤوي آلافًا من الهاربين، ومن لا يرحل إلى الجنوب قد يُدفَن تحت ركام منزله المدمّر، وبذلك تسيطر على المكان وتكون قد أنجزت الخطوة الأولى في هدف الترحيل (الترانسفير).
ما تقوم به إسرائيل من إجرام مفضوح بمنتهى الفجور هو إبادة جماعية، ولا يمكن الاستخفاف بتصريح وزير إسرائيلي بأن استخدام القنبلة النووية في غزّة قد يكون احتمالًا ممكنًا
يعدّ تيودور هرتزل مؤسّس الصهيونية السياسية، فهو من شكّل المنظمة الصهيونية وشجّع اليهود على الهجرة إلى فلسطين، ساعياً إلى تشكيل دولة يهودية. صحيحٌ أنه مات في العام 1904، قبل أن يتنعّم بتحقيق حلمه ومشروعه، إلا أنه معروف بأنه مُلهم اليهود في إقامة دولتهم. مع تأسيس فكرته وقبل إعلان قيام الدولة الموعودة، بدأ مشروع ترحيل الفلسطينيين واستمرّ، مدعومًا بمنع عودة اللاجئين الفلسطينيين، وهو الحقّ الذي كفلته المواثيق الدولية، وما زال المشروع حيويًّا وأوليًّا بالنسبة إلى إسرائيل، يندرج ضمنه العمل الدائم على قضم أراضي الضفة الغربية وإقامة مستوطنات يهودية، مع تنامي العداء والعنصرية تجاه الفلسطينيين، عدا التضييق عليهم في القدس لدفعهم إلى الرحيل. وبالتزامن مع الحرب على غزّة، تتكثف عمليات إسرائيل العسكرية في مدن الضفة الغربية ومخيماتها، والقتل والاعتقال، عدا عن ممارسات السلطات الإسرائيلية بحقّ فلسطينيي الداخل الإسرائيلي، أو عرب 1948، من هدم لمنازلهم وعدم إعطائهم تصاريح البناء، وإهمال قرى عديدة لناحية البنى التحتية.
ما تقوم به إسرائيل من إجرام مفضوح بمنتهى الفجور هو إبادة جماعية، ولا يمكن الاستخفاف بتصريح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو بأن استخدام القنبلة النووية في غزّة قد يكون احتمالًا ممكنًا، وبأن للحرب أثمانًا، ما يؤكّد أن أمر الرهائن الإسرائيليين لدى "حماس" ليس قضية أساسية، بل إن الهدف أبعد من هذا بكثير، وإلّا ما معنى تهافت العالم الغربي من أجل ضمان أمن إسرائيل؟ ما معنى أن تسارع الولايات المتحدة بإرسال ترسانتها الحربية، حاملتي طائرات، وأخيرًا حاملة صواريخ برؤوس نووية إلى مقابل غزّة؟ هل تحتمل غزّة، هذه البقعة الجغرافية الصغيرة التي لا تساوي حيًّا في المدن الكبيرة، كل هذا السلاح الفتاك المتطوّر؟ هل قدرات "حماس" العسكرية تعادل هذا الزخم العسكري؟ أم أن الأمر أكبر من هذا بكثير؟ ما الذي تخطّط له أميركا وحليفتها إسرائيل، التي لا تستجيب حتى للفت النظر الخجول من الغرب إلى تخفيف الحصار والتقليل من استهداف المدنيين، بل تطلب من الأمين العام للأمم المتحدة أن يستقيل، كونه لا يعيش في العصر؟.
هل ما تصوّره الكاميرات في غزّة ويشاهده العالم بحاجة إلى إثبات نيةٍ خلف ما تمارسه إسرائيل من جرائم إبادة؟
الواضح أن إسرائيل تقوم بإصرار بكل ما يحقّق الإبادة الجماعية، وتسعى إلى ترحيل الفلسطينيين، ولم توارب في هذا الشأن، إذ أعلنت باكرًا رغبتها في ترحيل سكّان غزة إلى سيناء، وسكان الضفة الغربية إلى الأردن. وتطرح أخيرًا، في التحضير لما بعد الحرب على غزّة، بالتفاهم مع أميركا، كما جاء على لسان وزير الخارجية بلينكن في اجتماع له مع الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، أن تكون السلطة الفلسطينية "حارسة أمن إسرائيل" في غزّة بعد الانتهاء من الحرب، إذا ما بقي فلسطينيون هناك، في إعلان واضح لما ترمي إليه مستقبلًا، وهو "مسخ" فكرة قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزّة، وفق ما أقرته القوانين الدولية.
الحقيقة الواضحة أن ما يجري في غزّة هو إبادة جماعية، تقول فاليري غابارد، خبيرة القانون الدولي في لاهاي، في مقابلة مع DW. "في الحياة اليومية، يستخدم ناس كثيرون مصطلح الإبادة الجماعية بشكلٍ فضفاضٍ للغاية، للإشارة إلى أكبر الجرائم وأخطرها، لأنه يبدو بطريقة ما أسوأ بكثير من جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية". وتوضح "لكن التعريف، في السياق القانوني، دقيقٌ للغاية وغير فضفاض. تحديد الإبادة الجماعية لا يتعلق بالأرقام. المعيار الأكثر أهمية نية الإبادة الجسدية لمجموعة ما". ويقول أستاذ القانون الدولي في جامعتي ميدلسكس لندن وليدن، ويليام شاباس: "المشكلة في إثبات نية الإبادة الجماعية أن من غير المرجّح أن يقدّم مرتكبو الجريمة اعترافاً مباشراً في المحكمة. ومن هنا، على المحاكم أن تستنتج النيّة من سلوك المشتبه بارتكابهم الجرائم، والاعتماد على الأدلّة الظرفية"، فهل ما تصوّره الكاميرات ويشاهده العالم بحاجة إلى إثبات نيةٍ خلف ما تمارسه إسرائيل من جرائم إبادة؟ وما يُخطّط للفلسطينيين ألا يعدّ "ترانسفير" تدريجيًّا.
من المثير للتأمّل أن من ابتكر مصطلح الإبادة الجماعية يهودي تعرّضت أسرته للإبادة، ومن ابتكر مصطلح "ترانسفير" يهودي أيضًا، هو موشي هس، صاحب فكرة إعادة انبعاث الأمة اليهودية.