جدل أميركا ما بعد أفغانستان
أعادت فوضى الخروج الأميركي من أفغانستان، والسرعة التي انهارت بها حكومة أشرف غني، وعودة حركة طالبان إلى السلطة بعد 20 عامًا من إطاحة واشنطن حكمها، أعادت إلى واجهة الجدل الإعلامي والأكاديمي مسألة قرب انتهاء عصر الهيمنة الغربية (الأميركية) في النظام الدولي. وذهب المؤرخ الاسكتلندي الأصل، والأستاذ في جامعة ستانفورد، نيل فيرغسون، إلى التبشير بقرب تحقق نبوءته التي وضعها في كتابه “Civilization: The West and the Rest”، إن الولايات المتحدة تعيش المراحل الأخيرة في عمر إمبراطوريتها التي لم يعرف التاريخ مثيلا لها في القوة والثراء. لا يعقد فيرغسون، لتأييد رأيه، مقارنة بين انسحاب واشنطن من أفغانستان وانسحابها من فيتنام عام 1975 كما فعل كثيرون، بل يفضّل مقارنة الانسحاب الأميركي من أفغانستان عام 2021 بالانسحاب السوفييتي منها عام 1989، ليأخذنا إلى نتيجة أن عصر الانهيار الأميركي على الأبواب.
يقدّم فيرغسون مؤشّراتٍ عديدة لدعم رأيه، أن الديْن الفيدرالي الأميركي تضاعف عدة مرات خلال عقدين، من 32% من الناتج القومي عام 2001 إلى 66% عام 2011 إلى نحو 130% اليوم. إضافة إلى ذلك، بات سكان الغرب يمثلون أقلية اليوم (نحو 10% من سكان العالم)، وأقلية متقدمة في العمر، فيما باتت توجد ثلاثة اقتصادات غير أوروبية بين السبع الكبرى في العالم (اليابان والصين والهند). وبرأي فيرغسون، بدأت الولايات المتحدة تسلك طريق الانحدار عبر الثلاثية الكلاسيكية القاتلة التي أودت تاريخيا بكل الإمبراطوريات: أزمة مالية وديون كبيرة، تورّط في حروب طويلة، انقسامات داخلية عميقة. وبرأيه، عندما تحصل الانهيارات تكون سريعة، إذ انهارت روما في غضون جيل، وانهارت إمبراطورية أسرة منغ في الصين (حكمت بين 1368 - 1644) خلال عقد، وانهار الاتحاد السوفييتي في بضع سنين.
قال مفكّرون آخرون أيضا بانتهاء عصر الهيمنة الغربية (الأميركية)، لكنهم كانوا أكثر حذرا حيال مزاعم انهيارها، ففي مقالة بعنوان "نحو كونسيرت عالمي جديد"، نشرتها أخيرا مجلة فورين أفيرز، رأى ريتشارد هاس وتشارلز كابشن أنه مع تراجع موقع الولايات المتحدة في النظام الدولي (تراجعت حصتها من الناتج العالمي والتجارة الدولية بمقدار النصف، منذ بلغت ذروتها مطلع الستينيات من القرن الماضي). ومع صعود قوى جديدة، تبرز الحاجة إلى تأسيس نظام دولي جديد، يأخذ بالاعتبار المتغيرات التي حصلت منذ نهاية الحرب الباردة. ويقترح هاس الذي كان مديرا للتخطيط في وزارة الخارجية الأميركية، ويترأس حاليًا مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، وصاحب كتاب "No One’s World: The West, the Rising Rest and the Coming Global Turn"، إنشاء كونسيرت قوى عالمي جديد (مجلس لإدارة شؤون العالم) على شاكلة الكونسيرت الأوروبي الذي حكم القارّة الأوروبية بعد نهاية الحروب النابليونية. يتكون المجلس من ست قوى رئيسة على الساحة الدولية: الصين والهند واليابان وروسيا والاتحاد الأوروبي (بقيادة ألمانيا طبعا) والولايات المتحدة. يعبر الكونسيرت المقترح عن التغير الكبير الذي طرأ على النظام الدولي مع انتهاء عصر الهيمنة الأميركية، الذي يعد بحسب هاس أقصر عهد هيمنة في التاريخ، إذ استمر عقدا واحدا فقط بين نهاية الحرب الباردة عام 1991 وهجمات سبتمبر 2001.
لكن، بماذا يعنينا كل هذا الجدل عن مستقبل القوة الأميركية بعد أفغانستان، على مشكلاته وعلاته (بعضه انتقائي وبعضه الآخر يتجاهل التحدّيات التي تواجهها القوى الصاعدة في النظام الدولي)؟ يعنينا بشدة، وربما أكثر مما يعتقد كثيرون، فمعظم الدول العربية متحالفة مع واشنطن، أو تعتمد على حمايتها، أو تتلقى مساعدة منها، أو تراهن على دور لها في حل أزماتها. التوقعات المتزايدة بشأن تراجع تأثير الولايات المتحدة أو على الأقل تراجع اهتمامها بشؤون المنطقة والعالم يجب أن يمثل جرس إنذار لهذه الدول. ولا بأس من لفت الانتباه إلى أن كل الدول العربية المنهارة اليوم (سورية، العراق، ليبيا، اليمن) تشترك في أنها كانت حليفة للاتحاد السوفييتي، وتعتمد على دعمه وحمايته، وقد دخلت مرحلة انعدام الوزن، وصولا إلى الانهيار الكامل، على خلفية غياب الدعم والحماية.