جبهة إنقاذ المسار الكارثي
الذين سخروا من الرئيس الشهيد محمد مرسي، وهو يكرّر لفظ "الشرعية" في الظهور الأخير له قبل الانقلاب عليه واختطافه، هل أحصوا كم مرّة استخدم الجنرال عبد الفتاح السيسي مفردة "المسار" في آخر ظهور له لمناسبة ما يسمّى المؤتمر الاقتصادي على مدار يومين؟
في الافتتاح والختام، أمسك السيسي بالميكروفون، وتحدّث أكثر من ثلاث ساعات، من بينها ما تجاوز الساعتين أمس، متحدّثًا عن ذاته، وعن المسار المقدّس الذي ينبغي على كل الأطراف الدفاع عنه وحمايته من كل معارض أو متربّص، مكررًا المفردة "المسار" نحو أربعين مرّة، متشبثًا بالميكروفون، وكأن فيه سر بقائه في السلطة، أو كأنه بزوال الميكروفون يزول العرش.
في هذه المرّة، بدا السيسي ضد الجميع، غاضبًا ومعاتبًا ومنتقدًا وساخرًا من الأطراف كلها، من المؤسّسات الدينية التي لا تساعد في القضايا الاقتصادية للدولة، والإعلام الذي يشكّل خطرًا على المسار بوضع التراب عليه، بقصدٍ أو بغير قصدٍ، ضاربًا مثلًا يراه معبّرًا عن سوء الأداء الإعلامي "لما تقول لي في الإعلام إن كرتونة البيض زادت عشرة جنيه يبقى إنت كده بتساعد في المسار؟". هكذا تساءل باستنكار، قبل أن يذكّر الإعلاميين بقول واحد منهم له في 2014 إنك مثل الزجاج ونخاف أن نخدشك، ومع ذلك لم يتورّعوا عن خدشه عندما تحدّثوا عن نفقات السجّادة الحمراء التي يمشي عليها.
إذن، كل نقد هو تخريب للمسار، وكل نشر عن ارتفاع أسعار أو غياب خدمات هو هدم للدولة "انتم مش عارفين يعني إيه دولة، انتم بتهدّوا بلدكم".
لم يسلم الدستور من غضب السيسي وانتقاداته "اللي كان بيحطّ الدستور ما كانش عارف يعني إيه دولة"، وكذلك الخبراء الاقتصاديون، الذين يجلس بعضهم أمامه وهو يخطُب، إذ طلب منهم تولي الوزارة قبل سنوات، فرفضوا لأن لديهم تاريخًا "مستخسر تاريخك في بلدك"، هكذا سخر منهم قبل أن يضيف أن منهم من رد عليه "هتدفعلي كام".
بالطبع، لم ينس الجنرال أن يوجّه طلقاته على التعليم الخرب، وعلى الشعب كثير الطلبات والاحتياجات، وكذا الرؤساء السابقين الذين دلّلوا هذا الشعب فأوصلوا البلاد إلى هذا المأزق.
الكل باطل إذن وقبض ريح، باستثناء الزعيم والجيش، الذي لم ينس أن ينادي على الرجل الأول فيه بالطريقة ذاتها التي يخاطب بها أحد مقاولي مشروعات الكباري "يا محمد يا زكي .. يا محمد يا زكي أنا بحييك وبحيي الجيش، مش عشان أنا منكم"، فيقوم وزير الدفاع، الفريق محمد زكي، من مقعده ليستمع إلى الزعيم ذي الحق الإلهي في السلطة، والذي هو ليس رئيسًا، كما يقول عن نفسه، وإنما هو "إنسان طُلب منه التدخل لحماية وطن".
هذه الفكرة عن الذات تجدها ملازمةً لعقل كل الطغاة والمستبدّين وخطابهم عبر التاريخ، ممن يعتبرون أنفسهم في مرتبة أعلى من الرؤساء العاديين الذين يختارهم الشعب لتولّي السلطة، لأنهم مختارون من الله، انتخبتهم الأقدار لحماية أوطان، وبالتالي، ليس من حقّ أحد من البشر أن يطالب بتغييرهم، أو التفكير في بديلٍ لهم، فالله وحده جاء بهم، وهو وحده الذي يسألهم ويذهب بهم ويأتي بغيرهم، هكذا قالها معمّر القذافي لثوار ليبيا في العام 2011، حين كان المطلب خروجه من الحكم "أنا مش رئيس .. أنا لو رئيس كنت تنحّيت"، حتى كانت النهاية الدامية.
حالة بارانويا فاقعة تتحوّل إلى عقيدة ويقين لا يتزعزع عند كل حاكمٍ يعتبر أن البلاد لم تكن بلادًا قبله، ومصيرها إلى الدمار والفناء من بعده، والنهايات في حالات كهذه واحدة لا تتغيّر، كما يقول لنا التاريخ القريب والبعيد.
هو مبعوث السماء لحماية المسار، الذي على الكل حمايته والدفاع عنه بوصفه معبودًا مقدّسًا. وفي ذلك، فليتنافس المتنافسون، وليساهم المساهمون من أحزابٍ تسمّي نفسها مدنية وديمقراطية وشخصيات تدّعي أنها مناصرة للحريات ولحق الشعوب في التغيير، عادت تلتئم مجدّدًا تحت راية الزعيم ذي الحق الإلهي في الحكم، لتكون مشاركة في إنقاذ مساره الكارثي، كما اجتمعت، بالوجوه والأسماء ذاتها تقريبًا في العام 2013، تحت شعار"جبهة الإنقاذ"، وتنشط في اغتيال حق الجماهير في انتخاب رئيسها.