ثورات الطلاب... ضمير أميركا والعالم
في تاريخ مصر السياسي المعاصر، شخصية استثنائية بكلّ المعايير، هي محمد حلمي مراد، رحمه الله، الذي كان وزيرَ التعليم العالي في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. وفي بيته، في ضاحية مصر الجديدة، حكى لي في لقاءٍ لا يُنسَى قصّة علاقته بعبد الناصر، وكيف أنّه استُدْعِيَ إلى رئاسة الجمهورية، مع رؤساء الجامعات، لمناقشة مظاهرات طلبة الجامعات المصرية احتجاجاً على نكسة عام 1967، وأظهر حلمي مراد، كما أكّدت شهادات عديدة، شجاعة غير متوقّعة، ودافع عن الطلاب دفاعاً مجيداً، واصفاً إياهم بأنّهم "ضمير الأمة". وبعد ربع قرن، كشف قائد سلاح الطيران آنذاك، اللواء مصطفى الحنّاوي، أنّه رفض أنّ ينفّذ أمراً أصدره عبد الناصر بضرب المتظاهرين برشاشات الطائرات المروحية (!)
ولمشهد الجامعات الأميركية المشتعلة احتجاجاً، من كولومبيا إلى نيويورك، سوابقه في تاريخ هذه الجامعات. وخلال حرب فيتنام، كانت المظاهرات الضخمة المناهضة للحرب تحرّكها قاطرة الاحتجاجات الطلابية، ويروي ضابط الاستخبارات الإسرائيلي المتقاعد، فيكتور أوسترفسكي (في محاضرة في نادي الصحافة في واشنطن عن أسباب الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل)، قصّة عملية استخباراتية كبيرة قام بها الـ"موساد" و"سي آي إيه". وبدأت العملية بمعلومة أنّ الشخصيات الأكثر فاعلية، في هذه الحركة الاحتجاجية الضخمة، يهود أميركيون يساريون غير متعاطفين مع إسرائيل. وقد طلب البيت الأبيض المساعدة من إسرائيل، التي أوفدت ضبّاط "موساد" اخترقوا هذه التجمّعات الطلابية، وكانت ثمرة هذه العملية الاستخباراتية تحويل اليهود اليساريين، الأكثر تطرّفاً في أميركا، إلى نجوم اليمين الأكثر تشدّداً. ولاحقاً، لعبت الجامعات الأميركية دوراً، هو الأكثر تأثيراً، في تقويض نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وكان موقفهم بوصلة أخلاقية سرعان ما أخذت أبعاداً سياسية داخلية ثم عالمية. لكنّ هذا المشهد، من ناحية أخرى، غير مسبوق في تاريخ الحياة السياسية الأميركية، وخطاب جو بايدن، الاستبدادي بامتياز، لا يتّسق مع التيار الرئيس لهذا التاريخ، ولا مع اللافتة التي يقف تحتها الرئيس وحزبه الديمقراطي. وفي هذا السياق تحديداً، يقدّم لنا التأصيل التاريخي ما يمكن أن يسهم في حلّ الأحجية.
السيطرة السلطوية والأمنية في العالم العربي أسهمتا بقوة في إصابة شرائح كبيرة من المجتمعات العربية بـ "التبلد"
تساءلت الباحثة في جامعة فلوريدا، أليسون إم. تانر، في ورقة بحثيّة مدهشة، عن سبب تحوّل الليبراليين المتشدّدين من قادة الثورة الفرنسية إلى شموليين "إرهابيين". وقادة من أصبحوا يُعرَفون في تاريخ هذه الثورة بـ "اليعاقبة"، كانوا أكثر الثوريين ليبرالية، بل كانوا ليبراليين مُتطرّفين، وبتعبير تانر؛ "معروفون بتطرّفهم مؤيدين للحرّية"، ويتّفق معظم العلماء على أنّ جذور الليبرالية الحديثة تعود إلى الثورة الفرنسية، لكنّ الليبرالية لاحقاً أصبحت "مفهوماً مؤلماً للفرنسيين". وإحدى أهم دعائم رؤية "اليعاقبة" التي تسهم في تحوّلهم إلى شموليين (بل إرهابيين) هو "الإيمان بوجود مجموعة صغيرة من الأفراد يفهمون المخطّط ويلتزمون بشدة بتحقيقه"، وهي عبارة تشبه إلى حدّ كبير حديث الرئيس الليبرالي اليساري بايدن عن طلاب الجامعة المتضامنين مع غزّة، بوصفهم "من لا يفهمون حقيقة ما يحدث".
والمنطق السلطوي، الذي توافق على التعامل به اليمين الأميركي والبيت الأبيض مع الإبادة في غزّة، ينطوي على مفارقة تحتاج إلى ما يتجاوز الدهشة. وجانب كبير من الخطاب التحليلي العربي يتعامل مع هذه المظاهرات فلا يرى فيها سوى احتجاجات رمزية لن تغادر أسوار الجامعات، وهو تهوين من قيمة منعطف تاريخي كبير في تاريخ بلد شكّلت الحياة الجامعية فيه مرآة حقيقة للظاهرة العالمية، التي عبّر عنها حلمي مراد بـ "ضمير الأمة". واللحظة الأميركية الراهنة لحظة انقسام تتّسم بالتعقيد الشديد، ويمكن أن يتحول الحراك الطلابي فيها إلى "الحصان الأسود" الذي يغيّر المعادلة السياسية، وما يتجاوزها. وقد كان اقتحام الكونغرس (يناير/ كانون الثاني 2021) شرخاً في المشهد السياسي، وحركة "احتلوا وول ستريت" لم تتبخّر، بل تفكّكت مؤقتاً، ويعاد إنتاج طبيعتها النضالية في مواجهة الجريمة الأميركية/ الإسرائيلية في غزّة، بل إنّ استطلاع رأي أميركي كشفت نتائجه نسبةً تتجاوز 5% من المستجيبين الذين يؤيّدون التساؤل بشأن "حقّ إسرائيل في الوجود".
ولا مبالغة في القول إنّ السيطرة السلطوية والأمنية في العالم العربي أسهمتا بقوة في إصابة شرائح كبيرة من المجتمعات العربية بـ "التبلد"، وموت الفاعلية السياسية والأخلاقية للمجتمعات العربية "غفوة ضمير"، فالطلاب "ضمير الأمة"، هنا وهناك.