تونس مسألةً ثقافية
هناك، في فندق الشاطئ روتانا في أبوظبي، في يناير/ كانون الثاني 2015، اجتمع مثقفون من 15 دولة عربية، غالبيتهم كتّاب أدب، في مؤتمرٍ للمكتب الدائم للاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، انتظمت على هامشه أمسياتٌ شعرية، ثم أصدر بياناً ختامياً وتقريراً عن حال الحرّيات عربياً و"إعلان أبوظبي". كان بالغ الكاريكاتيرية أنّ البيان أشاد بالتجربة التونسية، "بدايةً من ريادتها في حدث الحراك الاحتجاجي العربي التاريخي وصولاً إلى تصحيح مسار الثورة بشكل حضاري". وإذا سأل القارئ عن الاعوجاج، فالإجابة أنّ تصحيحه جرى في تراجع حركة النهضة في الانتخابات التشريعية التي انتظمت في تونس، ثلاثة شهور قبل المؤتمر، لتُحرز المرتبة الثانية بعد حزب نداء تونس (ما أخباره؟)، بعدما كانت الأولى في انتخابات المجلس التأسيسي بعيْد الثورة في 2011، وفقدت 20 مقعداً. وجاءت إشادة البيان هذه بعد توجيهه التحيّة إلى مصر "لما أنجزته من استحقاقاتٍ ديمقراطيةٍ ينبغي دعمها وحمايتها، من أجل تحقيق الاستقرار و..."، في إشارة إلى انتخاب عبد الفتاح السيسي رئيساً، قبل سبعة شهور من جمع "الشاطئ روتانا"، ما بدا مباركةً من جمهرة المؤتمرين الانقلاب العسكري إياه في مصر.
يجوز أن يُرى الاكتراث بالاتحاد المذكور وبياناته شيئاً من قلة العقل، غير أنّه يظلّ أمرا دالاً أنّ تشكيلاتٍ وتمثيلاتٍ لكتّاب عرب، يجمعها هذا المنتظم، وتضم آلافاً من أهل الإنتاج الثقافي، تستسهل كلاماً كهذا، فائض التبعية الذيلية لحكومة الدولة المضيفة فيه بيّنٌ، سيما أنّه ليس من أعراف هذا الاتحاد أن يمتدح "تصحيحاً" (!) يجري في أيّ انتخاباتٍ نيابيةٍ عربية. ولكن، لاستدعاء تلك الواقعة قيمته في أثناء الحدث التونسي الراهن، الانقلاب الذي أقدم عليه الرئيس قيس سعيّد على الدستور والنظام السياسي في بلاده، إذ إنّك تصادف كتّاباً وأهل أدب ورجال فكر وإعلام، من نخبٍ في غير بلد عربي، يبادرون، مستعجلين، إلى الانتصار لما ارتكبه سعيّد، صدوراً عن أوهامٍ متوطّنةٍ في أفهامهم أنّ الأخير أجهز على خصومهم، الإسلاميين في تونس، ممثلين في حركة النهضة، مفترضين في أنفسهم صفة أنّهم تنويريون، يتوسّلون تقدّم مجتمعاتهم بما يقيمون عليها من أفكارٍ معاديةٍ لأولئك المتخلفين "الإخوانيين". ولا ينظر هؤلاء، وهم في حالهم هذا، إلى أنّ الجاري في تونس، في مقدّماته وتفاصيله ومساراته، ليس مخصوصا ب "النهضة"، وإنما هو تنازعٌ بين أنصار تمرينٍ ديمقراطي، يُفترض أن تعبر فيه تونس إلى مراتب متقدّمة من الديمقراطية والحريات والمؤسّسية في العمل السياسي والعام، أمتن وأقوى، وأنصار الانقلابات على خيارات الناس الانتخابية، وتمثيلات الجمهور العام في البرلمان وغيره من مؤسّساتٍ.
والملحوظ في مراقبة الأصوات، غير القليلة للحقّ، التي سارعت إلى الاحتفاء بفعلة قيس سعيّد، الفاقد أيّ جدارةٍ أو كفاءة (مع التسليم بشرعيته رئيساً منتخباً قبل سوءاته السياسية)، أنّها متّسقةٌ مع نفسها، ومع إشهارها مواقفها التي لم تكتفِ بالصمت على جرائم نظام بشار الأسد في سورية، وإنّما باركت أيضاً ما سمّته "استحقاقاً دستورياً" أجراه المذكور، لمّا جدّد رئاسته قبل أسابيع. وهي ذاتُها الأصوات التي احتفت بالانقلاب البوليسي الذي وقع في مصر فور قيامه صيف العام 2013، وتتواصل في سجونه الوفيات بين المعتقلين، ويستمر في احتجاز الناشطين وأصحاب الرأي المخالف، بالتوازي مع فشله الكبير في الحفاظ على وحدة البلاد، بالتنازل عن جزيرتين فيها، وبالضعف البادي أمام الصلف الإثيوبي في تشغيل سدّ النهضة وملئه. والمؤدّى هنا أنّ انعدام الحساسية تجاه حقوق المواطنين العرب بالحياة (نعم بالحياة) وبحرّياتهم وبعدالة اجتماعية يشتهونها وبفرص العيش الكريم هو أهم "سجايا" هؤلاء الذين أحدَث فيهم قيس سعيّد الغبطة التي غشيتهم، وقد أنهى، بحسبهم، حركة النهضة "الإخونجية"، بتعبيراتهم قليلة الحياء.
... كان بيان مؤتمر شاطئ روتانا أبوظبي، في شتاء 2015، لجمهرةٍ من المشتغلين العرب بالإبداع والشأن الثقافي بالغ الفجاجة في الانتصار لحكامٍ عربٍ قاتلين، ولتعبيرات الثورات المضادّة، تماماً كما بدا خَرَسُ مثقفين وأصحاب فكر ورأي من نخبٍ عربيةٍ غير قليلةٍ بشأن نوباتٍ من انتهاكاتٍ تتابعت، واستهدفت المواطن العربي وحرياته. وفي الواقعة التونسية، صيف 2021، نعاين مستجدّا موصولا بهذا كله، عندما يبارك مثقفون عرب انتكاسةً عن تمرين ديمقراطي، في بلد عربي ناهض؛ انتكاسةً مريعةً من المرجّح أن يكون أثرها بالغ المرارة.