تونس .. قسَمٌ على احترام دستورٍ يحترق
انتهى الانسداد السياسيّ في تونس إلى تقابل فريقين يتنازعان الشارع: فريق الرئيس الذي رفع شعارات كثيرة يلخّصها "كلّنا قيس سعيّد" وفريق المعارضين الذي يمثّله حراك "مواطنون ضدّ الانقلاب"، وقد نظّم ثلاث تظاهرات: 18 و26 سبتمبر/ أيلول و10 أكتوبر/ تشرين الأوّل. ويتداول مؤيّدونه على "فيسبوك" أفكارا بضرورة تطويره واستمراره.
مشكلة الحراك الآن أنّه بلا أفق واضح، فليس له قيادة تنطق باسمه وتمثّله، ولا مسارُ معارضة، ولا مراحلُ تُراكمُ الإنجاز في مواجهة الانقلاب، ولا غاية محدّدة مضبوطة، فـ"إسقاط الانقلاب" و"عودة الشرعيّة" و"البرلمان والدستور" شعارات عامّة جدّا لا تعبّر عن رؤيةٍ لإدارة الصراع، ولا يمكن أن تجْمع أنصار الحراك المنتمين إلى تيّاراتٍ واتّجاهاتٍ سياسيّة وفكريّة مختلفة. وتواجه الحراكَ مشكلاتٌ إجرائيّة أيضا، فحصرُ تنظيم المسيرة في العاصمة ليس عمليّا، لتكاليفه الكثيرة، وضعف نتائجه بعدما تحقّقت غايته الرئيسيّة، وهي إقناع الرأي العام الوطنيّ والعالميّ بأنّ مشروعيّة تمثيل الشعب لا يحتكرها قيس سعيّد وحده كما يوهم بذلك خطابه. وتنظيمُ المسيرات في الولايات/ المحافظات ليس أمرا مضمون النجاح، وسيضع أطرافا سياسيّة بعينها في عين العاصفة، ويسهّل استهدافها. ورموزُ الفشل في تجربة ما قبل الانقلاب يرفضون الانسحاب من المشهد، ويعطّلون إمكانيّة صياغة برنامج عمل جامع. واقتسامُ الشارع أسبوعا لأنصار الانقلاب وأسبوعا لمعارضيه سيزيد الوضع سوءا وانسدادا، وقد ينقلب عنفا اجتماعيّا. ويمكن أن تنحرف المسيراتُ إلى العنف لأيّ سبب، وإن كان مفتعلا، ومشهد الاعتداء على صحافيّي القناة الوطنيّة الأولى في مسيرة 10 أكتوبر مثالٌ قريب. والخلاصةُ أنّ ضغط الشارع لن يكون منتجا وإن استمرّ، إلّا إذا وُجد أفق واضح وبرنامج دقيق. وأحسن مثال تجربة الجزائر التي فاق حراك الشارع فيها مائة جمعة، ثمّ سكن.
نجاح الانقلاب تعترضه مشكلتان حقيقيّتان: الأولى الكارثة الاقتصاديّة المحدقة بالدولة، والثانية سياسيّة مركّبة، وجهها الأوّل "معارضة" دول مؤثّرة الانقلاب
وقد يصبح الحراك محنةً جديدةً يباد فيها أنصار الديمقراطيّة التمثيليّة بعنف الدولة، فالرئيس أشار، في حديثه، عن مسيرات المعارضين قبل أيّام إلى "طواف الوداع"، ولا يحتمل كلامه إلّا تأويلا واحدا هو حظر تنظيم المسيرات. ووزيرُ الداخليّة الجديد يعود إلى الوزارة منتصرا، فقد أقاله رئيس الحكومة، هشام المشيشي، في يناير/ كانون الثاني 2021، وألغى قراراته التي أقال بها قيادات كبيرة في الوزارة وعيّن غيرها. والأرجح، إذن، أن تُمنع المسيرات بتعلّة التفرّغ لمحاربة الفساد والفقر والتأسيس لسيادة الشعب الحقيقيّة، أي تغيير النظام السياسيّ.
هذا الانسداد يعني أنّ الانقلاب بالفعل بدأ الآن. فله رئيس/ زعيم يجمع في يده السلطات كلّها ولا يراقبه ولا يعترض عليه ولا يمنعه أحد؛ وله واجهةٌ حكوميّةٌ إجرائيّةٌ يُفترض أن تخاطب العالم، وأن تسارع إلى حلّ مشكلات المواطنين؛ وله قوّة أمنيّة/ عسكريّة يرجع إليها الفضل في نجاح عمله؛ وله جنود مجنّدة من الإعلاميّين والفنّانين والكتّاب و"المنظّرين" والذباب الإلكتروني؛ وله داعمون دوليّون وإقليميّون، وله معارضة منقسمة: تعلن مقاومة الانقلاب وتقسّمها معاركها الإيديولوجيّة، وفيها "تماسيح" ترفض أن تبدّل جلدها أو أن تخبّئ وجوهها؛ وله مشروع يجد من يدعو إليه اقتناعا به أو شماتة في خصومه. ويعلّل معارضو الانقلاب أنفسهم بعباراتٍ متكلّسةٍ مثل "الانقلاب يترنّح"، و"الانقلاب إلى زوال" و"السيف لا ينتصر على الدم"... وهذا خطاب تسكين نفسيّ، يمكن أن يقارب الواقع في المآل لا في الحال، وأمّا الآن فلا يملكون إلّا المادّة الخام: الاستعداد للتظاهر الذي لم توجد بعدُ شروط تحويله إلى معارضةٍ حقيقيّةٍ هادفةٍ واعية.
لكنّ نجاح الانقلاب تعترضه مشكلتان حقيقيّتان. أولاهما الكارثة الاقتصاديّة المحدقة بالدولة، ومن آخر مظاهرها تخفيض موديز (Moody’s) ترقيم تونس السياديّ من B3 إلى Caa1، مع نظرة مستقبليّة سلبيّة. وهي وضعيّة ستزداد فيها صعوبة الاقتراض من الخارج، وقد يصل الأمر إلى فقدان سلع حيويّة من السوق التونسيّة وانقطاع أهمّ الخدمات وانهيار قيمة الدينار وزيادة التضخّم وانعدام الثقة في المؤسّسات التونسيّة المتعاملة مع الخارج، إلخ .. ولا تدلّ خطابات الرئيس على أنّه مدرك خطورة هذه الوضعيّة، ولا على امتلاكه كيفيّة معالجتها وتخفيف أضرارها، إلّا أنّ المدير العامّ للتمويل والدفوعات الخارجيّة في البنك المركزيّ التونسيّ تحدّث (15 أكتوبر/ تشرين الأوّل) عن وجود مناقشات متقدّمة جدّا مع كلّ من السعوديّة والإمارات "من أجل تعبئة موارد الدولة"، وقد كان متوقّعا أن يجد سعيّد دعما ماليّا من هاتين الدولتين.
يطالب الاتّحاد الأوروبيّ قيس سعيّد بوضع جدول زمنيّ واضح للعودة إلى النظام الدستوريّ
والمشكلة الثانية سياسيّة مركّبة، وجهها الأوّل "معارضة" دول مؤثّرة الانقلاب، ومن نتائجها إلغاءُ القمّة الفرنكفونيّة الثامنة عشرة التي كان مقرّرا عقدها في جربة في الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني)، وتعليقُ عضوية تونس في الجمعية البرلمانيّة للفرنكفونيّة، وتخصيصُ لجنة الشؤون الخارجيّة في الكونغرس الأميركي جلسة للوضع في تونس، واستعدادُ مجلس وزراء خارجيّة الاتحاد الأوروبيّ، والبرلمان الأوروبيّ لمناقشة الأوضاع في تونس قريبا. ويطالب الاتّحاد الأوروبيّ قيس سعيّد بوضع جدول زمنيّ واضح للعودة إلى النظام الدستوريّ، "على أساس الفصل بين السلطات، واحترام سيادة القانون والديمقراطية البرلمانيّة". ووجهها الثاني وقوع سعيّد في استعداء الدول بشعار "الدفاع عن السيادة الوطنيّة"، فهو يحتاج هذا الشعار لزيادة شعبيّته وصناعة صورة الزعيم الوطنيّ المدافع عن السيادة والاستقلال، فمعارضوه لم ينسوا له قوله، في قناة فرنسيّة العامَ الماضي، إنّ وجود فرنسا في تونس كان حماية لا احتلالا. ووجهها الثالث مشروعُ سعيّد نفسُه، فاستعجال تطبيق "سيادة الشعب"، والانهماك في قضايا الديمقراطيّة المباشرة، والعمل على إنجاح "التأسيس السياسيّ الجديد"، واستثناء الأحزاب والمنظّمات الوطنيّة والجمعيّات من الحوار، هذا كلّه سيزيد الوضع الاقتصاديّ سوءا، والوضعَ السياسيّ احتقانا لاختلاف سعيّد والمركزيّة النقابيّة وكثير من الأحزاب في الموقف من الأحزاب والديمقراطيّة والحوار وكيفيّة معالجة الأزمة التونسيّة العامّة المتفاقمة، وإن تقاطعوا مؤقّتا في هدف إضعاف النهضة وائتلاف الكرامة أو إقصائهما. ويضاف إلى هذا أنّ حكمَ الرئيسِ المطلقَ الذي بدأ بالفعل يوم تنصيب الحكومة فيه وهن رمزيّ شديد، فقد خرق سعيّد الدستور بالإجراءات الاستثنائيّة، ولم يستطع إقناع أحدٍ بسلامة تأويله، ثمّ ألغى أكثره بالأحكام الانتقاليّة (المرسوم 117)، وحطّ منزلته فجعله تابعا لأوامره يسقط ما عارضها منه، ثمّ أحرقه أنصاره في وقفتهم، وصوّروا أنفسهم يهتفون باسم زعيمهم، ولم يلاحَق منهم أحد. ويوم تنصيب الحكومة، وقف وزراؤه يقسمون على احترامه. القسَم على احترام دستور يحترق قسَمٌ على معدوم، لكنّ الاستبداد جبان.