النبز السياسيّ في تونس

26 اغسطس 2021
+ الخط -

النبز السياسي قول مهين يوجّهه السياسيُّ إلى منافسه للسخرية منه وتشويهه. وهو جزءٌ من الحياة السياسيّة في كلّ بلد، وأكثر ما كان يُتداول منه في تونس قبل 2011 نبز النظام لمعارضيه. ثمّ وجدت المعارضة في القنوات الإلكترونيّة مجالا لمنابزة النظام، ثمّ ارتفعت القيود بعد 2011، واتّسعت ممارسة النبز السياسيّ بلا قيد ولا شرط، فأضحى له "معجم" غنيّ نما في حياة سياسيّة معطوبةٍ تكاثرت فيها الأحزاب بلا رؤية ولا مشروع (أكثر من 280 حزباً)؛ وملأ المشهدَ "سياسيّون" ليس لأكثرهم ثقافة سياسيّة ولا خبرة عمليّة؛ وتكرّر انشقاق الأحزاب والكتل البرلمانيّة في ما عُرف بـالسياحة الحزبيّة؛ وكثر الحديث عن سطوة المال الفاسد في التلاعب بالسياسيّين؛ وتلاعبت بجمهور عريض من الناس مراكز التعبئة النفسيّة والإيديولوجيّة في تونس وفي الخارج. وفي هذا الواقع السائل استفحلت ظاهرة النبز السياسيّ حتّى غدت سمة أساسيّة في الخطاب السياسيّ، وساهمت في التمهيد للانقلاب، ثمّ في تبريره بعد وقوعه. ويمكن الإشارة إلى صنفين منه:

الأوّل يقوم على تحريف اسم الخصم السياسيّ، فيُنطق اسم عبد اللطيف "سِيعَبْلَطيف" و"سِيعَبْلَتِيفْ"، وهو دمجٌ لكلمةِ "سي" التي تستعمل للاحترام وتوازي في الفصيح كلمة السيّد، واسمِ العَلَم محرّفا. والتحريفُ هنا "ترخيم" ساخر، يجرّد صاحب الاسم من صورته الإيجابيّة عند تونسيّين كثيرين لنجاحه في عمله وقدراته التواصليّة، ويناديه بالصيغة التي تستعمل في ترقيص الأطفال. وتصبح "موسي" "موشي"، للإشارة إلى أنّ صاحبة اللقب تنفّذ سياسة إسرائيليّة من أهدافها إفشال التجربة الديمقراطيّة التونسيّة. وينادى عَجْبوني بـ"جَعْبوني"، وقد أخِذت من العاميّة "جَعْبون" وتعني المتكلِّف الذي يحشر أنفه في ما لا يُتقنه ويدّعي معرفة كلّ شيء. ويدعى القصّاص "البَصّاص"، وهي صيغةُ مبالغةٍ من "بصّ" أي أطلق الريح، وأوّل من استعملها نائب ينبز نائبا ليقول إنّ ارتفاع الصوت والقوّة في إعلان الموقف والتظاهر بالشجاعة ظواهر صوتيّة ليس وراءها إلّا الأذى. وتسمّى محرزيّة "الحارزة"، وهي المرأة القائمة على حمّام النساء، وتُعرف في المتخيّل الشعبيّ بصفات سلبيّة أهْوَنُها سلاطة اللسان. وهذا النبز يجرّد الاسم من دلالاته الإيجابيّة، فمحرزيّة تأنيث "مِحْرِز"، ومحرز اسم متصوّف توفّي عام 413هـ، وله في العاصمة مقام يزار، ومكانة كبيرة عند سكّانها، ويُعرف عندهم باسم "سلطان المدينة". والنبز يمحو هذه المعاني ويبرز صورة نمطيّة مركّبة من جميع الصفات السلبيّة في المرأة في المتخيّل الشعبيّ.

 النبز السياسيّ غدا لغة متعارفة في تونس يتواصل بها المتنابزون وإن استهجنها بعضهم

وتحرّف النهضة إلى "النكبة" و"النهبة" و"النهقة". وكلّ نبز من هذه النُّبُوز يغمر الحركة بدلالات سلبيّة تُستعمل في سياقات متنوّعة، ثمّ يؤدّي اجتماعها إلى إخراج الاسم الأصليّ من الاستعمال أو جعل النبوز ملازمة له كأنّها شرح لمعناه، فتقترن النهضة بمعاني الفشل والهزيمة والسرقة ونهب المال العامّ والغباء والصوت المزعج. وقد تثبَّت هذه المعاني السلبيّة بالصور (رأس حمار مثلا). ويُنطق المناضل والنضال "المناذل" و"النذال"، وإبدال الذال بالضاد تحريفٌ يمحو كلّ ما اقترن بالكلمتين من معان إيجابيّة مستفادة من تاريخ الحركة الوطنيّة خاصّة، ويثبّت معاني النذالة والخسّة وطلب المنافع الماديّة الرخيصة برفع الشعارات الوطنيّة ومقاومة الاستبداد. وهذه صورة راسخة في الذاكرة الشعبيّة، فكلّ ما يسمّيه النظام منذ الاستقلال نضالا، ويجازي عليه بالمال والأوسمة، يوازيه عند الناس تصنيف سلبيّ يجمع المنتفعين من النظام ومصّاصي مال الشعب برصيد نضال وهميّ.

والصنف الثاني الألقاب: ومنها بوشْلَاكَه (الهاء لا تنطق)، وهو لقب حقيقيّ لوزير سابق، لكنّه تركه، ويحبّ أن يدعى باسم آخر. وخصومه يصرّون على تذكيره به، فـ"الشلاكة" هي النعل (شحّاطه، شبشب) للإشارة إلى أصوله الشعبيّة، ولحصر صورته الإعلاميّة في معانٍ سلبيّةٍ تقترن في الذاكرة الشعبيّة بـ"الشلاكة"، ويترجمها بكثافة شديدة وصفُ كلّ شخص مكروه أو خبيث أو خسيس بأنّه "شلاكة". وقد يشتقّ النبز من صفةٍ خَلْقيّة في المنبوز، كما في "بو جِلْغة" الذي يطلق على زعيم سياسيّ لتفاوت في أسنانه؛ و"الكركدن" الذي أطلق على سياسيّ لشدّة سمنته. ويربط النبز بين ما يُعتبر قبحا في الصورة والموقفِ السياسيّ، ليثبّت عند جمهوره "اعتقاد" قبح رأي المنبوز لا صورته فقط، فلا يصدر منه إلّا الموقف الخاطئ والفكرة المضطربة.

من الألقاب ما يشتقّ من السلوك السياسيّ، مثل "الزغراطة" وهو نبزٌ أطلق على عبير موسي لحماسها قبل الثورة في تأييد بن علي

ومن الألقاب ما يشتقّ من السلوك السياسيّ، مثل "الزغراطة" وهو نبزٌ أطلق على عبير موسي لحماسها قبل الثورة في تأييد زين العابدين بن علي، ومشاركتها في حفلات حزبيّة تغنّت فيها بشعار "الله واحدْ الله واحد وبِنْ علي ما كيفو حدْ" (ومعناه: حمى الله ابن علي الذي لا نظير له). وتُستعمل عبارة "الله واحد" للتعبير عن الإعجاب في اللهجة التونسيّة، وتقال لحماية موضوع الإعجاب من عين المعجَب. وتُستعمل في نبز موسي كلمات كثيرة أقصى طرفيها: "الزغراطة" و"الفاشيّة"، والأوّل يجعلها بوق دعاية: لا تمثّل فكرا ولا تحمل مشروعا سياسيّا وليست مستقلّة في مواقفها. والثاني ينسبها إلى العنصريّة والاستبداد والشعبويّة ويجعلها نقيضا للديمقراطيّة التي فسحت لها مجال المشاركة السياسيّة وأوصلتها إلى البرلمان.

وتُشتقّ الألقاب أيضا من العلاقة الزوجيّة، كما في "رَاجِلْ سامية"، في نبز سياسيٍّ معروفٍ تُدعى زوجته سامية، والتسمية كناية عن تبعيّته لها وانقياده لآرائها ومواقفها انقيادا امّحت فيه شخصيّته. والنبز مأخوذٌ من صورة الرجل في علاقته بزوجته في المتخيّل الشعبيّ، فالأصل فيه أن يكون الرجل فارضا لرأيه غالبا لزوجته، وينعت بالأصبع إذا بدا منه تراخ أو انقياد لها. والمعنى الثاني في التسمية أنّ الحزب "شركة زوجيّة" الأمر والنهي فيها للزوجة، ولا قيمة فيها ولا أثر للمؤسّسات الحزبيّة.

وأطلق نبز "الشبّيح" على كلّ مؤيّد لبشّار الأسد من التونسيّين، ونبز "حزب البراميل" على حزب قوميّ تونسيّ مؤيّد لبشّار وسياسته، والنسبةُ إليه "براميلي". ويجمع النبزان معاني كثيرة أهمّها تأييدُ الاستبداد والاستهانةُ بدماء الشعوب ومعاداةُ الحريّة والديمقراطيّة وتناقضُ أصحابه الذين يعيشون بحريّة في الديمقراطيّة ويطالبون لغيرهم بالاستبداد والحكم العسكريّ. وصارت هذه المعاني من معرّفات هؤلاء حتّى صاروا عند تونسيّين كثيرين كائنات لا تتنفّس إلّا في الاستبداد وحكم العسكر، واستعملت هذه الصورة كثيرا في تفسير علاقتهم بالرئيس التونسيّ وأفكاره السياسيّة.

اتّسعت ممارسة النبز السياسيّ فأضحى له "معجم" غنيّ نما في حياة سياسيّة معطوبةٍ تكاثرت فيها الأحزاب بلا رؤية

و"الحَفْتَرِيشْ" مفردة في اللهجة التونسيّة تُستعمل لوصم من يعتبرهم المتكلّم بلا قيمة، فكلّ من لم يكن عندهم نفع، أو كان كلامهم في مواضيع تافهة، أو كانوا أخلاطا لا انسجام بينهم، فهم عند نابزهم "حفتريش". ثمّ أصبحت تطلق على مؤيّدي المتمرد الليبي، خليفة حفتر، من التونسيّين، وهم خليط من اتّجاهات سياسيّة كانت تجمعهم الرغبة في إسقاط الحكومة وإفشال ما يُعرف بالانتقال الديمقراطيّ. ويجمع النبز بين لقب خليفة حفتر، ومفردة "الحفتريش"، وصيغة الفعل المضارع "يحَفْتِرْ"، ويعني في اللهجة التونسيّة "يتدبّر أمره بأيّ وسيلة". وخلاصة الدلالة فيه أنّ "الحفتريش" لا فكرَ ولا مشروع ولا نجاح ولا مبدأ، بل شخصيّة متقلّبة همّها مصالحها.

و"النمط" نبز أطلق على طائفة كبيرة من التونسيّين من اتّجاهات حزبيّة وسياسيّة وفكريّة مختلفة، يجمعها "الخطابُ الحداثيّ"، ومعارضةُ الإسلام السياسيّ خاصّة، ومنهم من يتّهمه خصومه بـ"معاداة" الدين. ويدافع هؤلاء عمّا يسمّونه "النمط المجتمعيّ التونسيّ" ويجعلون من سماته التسامح والانفتاح والحداثة وتحرير المرأة، إلخ... ولكن لا يوجد تعريف دقيق للتسمية، وقد لا تدلّ آراء أصحابها على دفاع حقيقيٍّ عن الحرّيّات واعترافٍ بالمخالف السياسيّ وإيمانٍ بالتعدّد. وقد جعلهم غموضُ شعارهم وتفاوتُ مواقفهم ودفاع بعضهم عن الاستبداد غرضا لخصومهم، فأصبحت كلمة "النمط" نبزاً. وجميع ما يتبادل من نُبُوز في هذا المعنى يكشف صراعاً يقسم المجتمع التونسيّ، وطرفاه الكبيران الإسلاميّون والعلمانيّون، ويعبّر عنهما نبزان آخران: الأوّل "تونستان"، ويستعمله "الحداثيّون" للتنبيه على أنّ غاية الإسلاميّين تأسيس دولة دينيّة متطرّفة في تونس؛ والثاني "بنو علمان"، يستعمله الإسلاميّون لينبّهوا أنّ الحداثة والنمط المجتمعيّ وقضايا المرأة والجندر... شعارات لحقيقة واحدة هي العلمانيّة المتطرّفة.

غابت الجملة السياسيّة المفيدة، وأصبحت ممارسة السياسة نوعاً من اللغو

يكشف النبز السياسيّ تمثّلَ متعاطي السياسة في تونس للعمل السياسيّ، وتصوّرَهم للاختلاف وإدارته، وللصراع وأدواته ومقاصده. ويبيّن كيف يصنّفون المواطنين تصنيفاتٍ دينيّةً وجهويّةً وجندريّةً تشترك كلّها في جذر عنصريّ، يعتبره النابز معيارا في التصنيف. ولا يكفي تبرير النبز السياسيّ في تونس بأنّه تعبير عن طريقة غير مهذّبة في إدارة الصراع، غايتها إحراجُ الخصم أو إسكاتُه و"استدراجُ" أنصار جدد. فكثرةُ استعمال النبز وجمودُ الفكر السياسيّ وانحدارُ سلوك السياسيّين إلى تبادل الضرب والشتم والقذف، هذا كلّه يعني أنّ النبز نُطْق عن بنية إيديولوجيّة وترجمةٌ لثقافة "سياسيّة" شعبيّة يستوي فيها زعيم الحزب والنائب في البرلمان و"المنظّر" الإيديولوجيّ والتابع الأميّ، ويستوي في استعمالها الجامعيّ والمحامي والطبيبُ والمعلّم وشباب المقاهي، .. إلخ. فهؤلاء جميعا تذوب الفوارق الثقافيّة التي تميّز بعضهم عن بعض، ويجمعهم الإنترنت الذي يشبّهه بعض الباحثين بـ"غرف تغيير الملابس في الملاعب". وفي هذه الغرف يشكَّل الوعي السياسيّ ويدرّب الأتباع على كره المخالف والاستعداد لإقصائه أو افتراسه إن اقتضى الأمر. وفيها يصاغ خطاب النبز، فالنبز "ليس مفردة من لسان بل كلمة من خطاب" ومن أسوأ نتائجه في تونس أنّ شدّة جريانه كشفت عن عنف لغويّ شديد يزداد هولاً، ويحدث جروحاً نفسيّة عميقة، وقد ينقلب عنفاً مادّيّاً مدمّراً.

والغريب أنّ النبز السياسيّ غدا لغة متعارفة في تونس يتواصل بها المتنابزون وإن استهجنها بعضهم. ولا نكاد نسمع بمتابعة قانونيّة لأحد منهم. ولا شكّ في صعوبة مراقبة جميع المنشورات في وسائل التواصل، وفي إمكان انحراف المراقبة والمنع إلى الاستبداد والإلجام، إلّا أنّ النبز السياسيّ السائل في تونس أصبح علامة على مجتمع تآكلت فيه سلطة الضبط والسيطرة، وغاب القانون الرادع أو عُطّل، وتهرّأ المجال السياسيّ والثقافة السياسيّة، فشاع الخطاب المحرّض على الكراهية والعنف، واستساغ الناس الوصم وألفوه، وغابت الجملة السياسيّة المفيدة، وأصبحت ممارسة السياسة نوعاً من اللغو، أي تبادلاً لخطاب استهلاكيّ لا ينتج معرفة نظريّة ولا يؤسّس ممارسة واعية.

A614EF74-C1F1-4E15-90EC-0B94242176DA
عبدالله جنوف

أستاذ بالجامعة التونسيّة. متخصّص في الإسلاميّات.