تمور أبو الغيط وحليبه
نتمنّى أن يكون الأمن القومي العربي قد استردّ عافيته، وتجاوز كل الأخطار المحدقة به، بعد إعلان السيد جورج قرداحي استقالته من منصب وزير الإعلام اللبناني، والاتجاه إلى تناول "تمور وحليب" بنكهة فرنسية، صحبة رئيس الجمهورية الجنرال ميشال عون، ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
نرجو كذلك أن يكون الصالح العام اللبناني في أتم عافيته، والمصالح القومية الكبرى على مستوى الوطن العربي في طريقها إلى التحقق، بعد هذه الاستقالة التي تعيد إحياء حلم الوحدة العربية، على يد السيد إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا الشاب، المهموم بقضايا أمتنا العربية، والذي ترك كل شيء وهرول سريعًا إلى المنطقة، من أجل إعادة ترتيب البيت العربي، ومصالحة الأشقاء على بعضهم بعضا، وإعادة لبنان إلى أحضان أشقائه.
طار ماكرون إلى المنطقة هذه المرّة لإنهاء الحصار العربي على لبنان، بعد أزمة تصريحات أطلقها جورج قرداحي، رجل الميديا السعودية سنوات طويلة، عبر فيها عن وجهة نظره في الحرب الدائرة باليمن، وذلك قبل تعيينه وزيرًا لإعلام بلاده في الحكومة التي ولدت بعد مخاض عسير.
فحوى الزيارة لم يخرج عن فحواها في سابقاتها: لبنان شأنٌ فرنسي، سواء في علاقاته بمحيطه العربي، أو في العلاقات بين مكوناته الداخلية، كما فعل بعد كارثة انفجار المرفأ مباشرة، حين حطّت طائرته في بيروت، ليعلن أنه راعي الشعب، الذي سيوجه مساعداته له من دون وسطاء، متجاهلًا النخبة الحاكمة.
في الحالتين، كارثة المرفأ وموقعة قرداحي، اكتفى العرب بالفرجة على الديك الفرنسي وهو يؤذّن في بيروت، وينهر هذا، ويحتضن هذه، ثم يعود إلى فرنسا، تاركًا لبنان يتخبّط.
سجلت وقتها أن الهم اللبناني كان على موائد السياسة العربية أكثر من نصف قرن مع اتفاق القاهرة 1969 ثم اتفاق الطائف 1989 وأخيرًا اتفاقية الدوحة 2008، وكل هذه الاتفاقات، ما تحقق منها وما لم يتحقق، كان، بالحد الأدنى، تعبيرًا عن رابطة حقيقية بين لبنان ومحيطه وعمقه العربيين، وإشارةً، ولو مشوّشة، إلى ملامح نظام سياسي عربي، يمكن أن يكون حاضرًا وفاعلًا في الحالة اللبنانية، بحيث لا تبقى في عهدة بقايا الانتداب الفرنسي والنفوذ الغربي.
لكن ذلك كله تبخر الآن، ولم يعد لدى العرب من أجل لبنان سوى إحكام الحصار وتضييق الخناق عليه حتى يلتحق بقوافل التطبيع التي تشدّ الرحال صوب مستقبلٍ ليس فيه من ملامح الماضي، تاريخًا وجغرافيا، شيء.
بحضور ماكرون، بالوصفة الفرنسية لعلاج أزمة قرداحي، يحضر بالضرورة أحمد أبو الغيط على هيئة سؤال: ما هي وظيفة الأمين العام لجامعة الدول العربية، غير الظهور في حوارات تلفزيونية مطوّلة، مع المذيع أحمد موسى، لكي يلعن ثورات الشعوب العربية ويشتم الإخوان المسلمين، ويشيد بعبقرية الجنرال عبد الفتاح السيسي، ويوجّه التحية الحارّة إلى أصدقائه في الإمارات والسعودية؟
البند الثالث من المهام السياسية لشاغل موقع الأمين العام للجامعة العربية ينص على: "توجيه نظر المجلس أو الدول الأعضاء في الجامعة إلى مسألة يقدر الأمين العام أهميتها". .. هل سمعت عند أي دور، أو مجرّد محاولة للتدخل من الجامعة أو أمينها العام في المسألة اللبنانية السعودية، وما نتج عنها من سحب سفراء وعقوبات اقتصادية على بلدٍ يختنق بأزمات مالية؟ أم أن تقدير السيد أبو الغيط لم يذهب به إلى اعتبار أنها مسألة مهمة تستحق النظر والمناقشة والتدخل لإنهاء ما بين أعضاء في الكيان الذي يتقاضى راتبه عن العمل فيه؟
يبدو أن من العبث سؤال أحمد أبو الغيط عن رأيه في هذه الأمور، أو مشاعره وهو يشاهد اللقطات المثيرة لرحلة الرئيس الفرنسي السريعة إلى السعودية، وما تم خلالها من حمل وزير إعلام لبنان على الاستقالة، ثم إجراء أول اتصال بين ولي العهد السعودي والرئاستين اللبنانيتين، واعتماد مبادرة فرنسية خالصة لإنهاء الخلاف وتبعاته.
ذلك أن أبو الغيط يعلم، والنظام الرسمي العربي، كذلك يعلم، أن جامعة الدول العربية لم تعد تمثل شيئًا، سوى أنها قطعة ديكور، قد يتم استنطاقها في مناسباتٍ معينةٍ لإصدار بياناتٍ بطعم التمور والحليب، بناء على طلب من يتكفلون بدفع أجر الأمين العام، ومكافآته بعد إنهاء خدمته.