تفكيك مقولة "السلطان ظلّ الله في الأرض"

15 ابريل 2022
+ الخط -

في سياق تفكيك مقولاتٍ تتخذ ضمن تبرير الاستبداد في النظر إلى السلطة السياسية وطبيعتها، لاحظنا أن كل مقولة قد اعتمدت مفهوما مشوشًا ومشوهًا؛ ضمن تلك المقولة، بحيث شاعت مضامينها السلبية، وراجت آثارها التدميرية في الخنوع والخضوع وقابليات عقلية القطيع، خصوصا في ما يتعلق بالاستبداد وضرورات مقاومته ومواجهته. وتعد مقولة "السلطان ظل الله في الأرض" شديدة الالتباس، ذلك أنها تحاول إضفاء قداسةٍ على الفعل السياسي من السلطان ومحاولة تسويغه التي تفترض في تلك الأفعال قبولا من جرّاء تلك القداسة، وما يمكن أن تتركه تلك المقولة من آثار خطيرة ومآلات سلبية على فهم قضية استبداد السلطة والتعامل معها.

ولتفكيك تلك المقولة، لا بد أن نستدعي مع تلك المقولة مفهومين أساسيين، غالبا ما يقترنان بها ومعها: الأول، يتعلق بالنظرية الثيوقراطية في نشأة الدولة والسلطة في خبرة الغرب. والثاني، يرتبط بمفهوم الجبرية السياسية الذي استخدمه من قبل أهل السلطة في مراحل كثيرة، وفي كتاباتٍ ذاعت فيها تلك المقولة في التراث السياسي الإسلامي. والتوقف عندها يجعل من الضروري، في البداية، أن نؤكّد أن صدور المقولة ذاتها "ظل الله في الأرض" داخل الفكر السياسي الغربي، وكذا الفكر السياسي الإسلامي والتاريخ السياسي المتعلق بهما قد أضاف إليها أبعادًا أساسية في الفهم الخطأ والالتباس الذي سكن تلك المقولات، والآثار التي تركها كل مسار من التفكير، سواء أكان هذا الأمر يرتبط بالثقافة والحضارة والخبرة الغربية أو يتعلق بالخبرة الإسلامية فكرًا وممارسة.

الثيوقراطية تعني نمط حكمٍ تدّعي فيه السلطة القائمة أنها تستمد شرعيتها من الله، ويدّعي الحاكم أنه يحكم باسم الله

وعلينا منذ البداية أن نؤكد أن اعتماد السياق يعدّ منهجًا مأمونًا ومضمونا في هذا المقام، خصوصا مع التعميمات التي أطلقها بعض الكتاب والمفكّرين المرموقين في هذا المقام عند دراستهم العقل العربي والآداب السلطانية (تعرّض لذلك مقال سابق في "العربي الجديد" للكاتب)، ففي غالب الأحوال، أبدى هؤلاء ومن اتبعهم بعد ذلك في تبنّي تلك التعميمات أن هناك مشابهة كاملة لهذه المقولة في السياقين الغربي والإسلامي، وهو ما يجعلنا نستدعي هذين المفهومين، الثيوقراطية والجبرية. الأول الذي نشأ في سياقات غربية، والثاني مثل تيارًا في الفكر الإسلامي؛ وهو ما يفسّر ذلك الفهم المنحرف لتلك المقولة التي عنت في الفكر الغربي نظرية التفويض الإلهي في نشأة السلطة ضمن تصوّرات تتعلق بالعلاقة بين السلطتين الدينية الكنسية والزمنية. أما مفهوم الجبرية الذي غالبا ما تبنّته بعض السلطات في تسويغ مسألة سلطانها، فبدا واضحا، منذ الفترة الأموية التي بدا لبعضهم أن يسوّغ لهذه المقولة ضمن فهم جبري أن السلطة جاءت بأمرٍ من الله، وأنها تفعل ما تفعل بقدر الله الذي لا يُدفع، فلا مفرّ منه ولا يُسأل عنه، فليس على الجميع إلا الخضوع له والامتثال.

ومن المهم الإشارة، في هذا المقام، إلى أن الثيوقراطية تعني نمط حكمٍ تدّعي فيه السلطة القائمة أنها تستمد شرعيتها من الله، ويدّعي الحاكم أنه يحكم باسم الله. وبالتالي، يُلغى إشكال الشرعية السياسية بحجّة الاستجابة للإرادة الإلهية، ويكون الناس مجبرين على الطاعة العمياء لهذه السلطة من منطلق الحق الإلهي. وهناك كتاباتٌ عديدة تناولت هذه النظرية برؤية نقدية وافية، ومنها كتاب حسام كصاوي حسين "نقد النظرية الثيوقراطية السياسية" (أمواج للنشر والتوزيع، عمّان، 2015). وكذلك أشارت كتابات إلى أن "الثيوقراطية في الحقبة المعاصرة أصبحت تلبس لبوس الدولة المدنية وتُخفي تحته خصائص الثيوقراطية القديمة، فمثلا لا تزال الكنيسة تحظى بنفوذ واسع في عدد من دول أميركا اللاتينية، رغم أن هذه الدول دول مدنية وتنهج الديمقراطية التعددية، وفي إسرائيل ما زالت كلمة الحاخامات مسموعة، كما أن دولة إسرائيل تتبع بعض المعتقدات التوراتية والأساطير الناشئة عنها".

حديث "السلطان ظل الله في الأرض" منكر متنه في كل رواياته، لا يستسيغه عقل، ولا تقبله عقيدة

خلاصة تلك الحالة الجبرية، وفقا لبعض الكتاب، أن "الظلم والأثرة والفساد وغير ذلك من الأمور كلها كانت قدراً لا مفر منه، وأن الإنسان قد قدر الله عليه كل شيء على سبيل الإجبار وأن الإنسان مسلوب الإرادة، وأنه لا فائدة في نية التغيير أو الثورة على الحكام لأن الله قد اختارهم للخلافة، فهم ظل الله في الأرض وهم خلفاؤه على خلقه وأن من نازعهم فسيكبه الله في النار! وهذه العقيدة أريد بها تيئيس الناس من تغيير الحاكم أو محاولة ذلك مستدلين بفشل كل الثورات المتتالية ضد الاستبداد". وهو ما يوضح أن هاتين الفكرتين حينما تتلازمان مع تلك المقولة تعطيها ذلك الفهم الذي يسوّغ الحقّ الإلهي في السلطة. وقد يشير بعضهم إلى أن تلك المقولة تضمّنها حديثٌ ينسب للنبي عليه الصلاة والسلام "السلطان ظل الله في الأرض"، إلا أن محدثين كثيرين أكّدوا أن هذا الحديث يتراوح بين ضعيف ومنكر وموضوع. كما وردت لهذه المقولة ظلال على عهد الخلافة الراشدة، فهناك قول نُسب لسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه "لن يتخلّى عن قميصٍ ألبسه إياه الله سبحانه وتعالى"، وقول آخر للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه "لا بد للناس من إمرة برّة كانت أم فاجرة". وحقيقة الأمر أن قولة سيدنا عثمان لم تكن تعني، من أي وجه، قداسةً تتعلق بسلطته وسلطانه، ولكنه كان يرى أن الحساب الذي يتعلق بالشأن السياسي وجب أن يتحدّث عن كل ما يتعلق بسيرته السياسية وأفعاله، ذلك أن هذه السلطة كانت حقّا له بتلك البيعة التي أخذها، ذلك أن حقوق الله في هذا المقام تؤول إلى الجماعة كما هو معتبر في الرؤية الإسلامية. أما قول الإمام علي فلم يكن إلا إشارةً إلى فكرة ضرورة السلطة في نصبها وإقامتها، ولا تتعلق أبدا بشرعيتها أو أيٍّ من مداخل قداستها. وهذا وذاك ضمن السياقات الإسلامية لا يماثل أو يتشابه أو يتقاطع مع تلك الرؤية الغربية في النظرية الثيوقراطية. والمؤكّد في الرؤية الإسلامية هو ما ذهب إليه الكاتب محمد فارس جرادات: "تعامل الذوق الديني الفطري في صدر الإسلام بحساسية شديدة مع كل مفردةٍ لغويةٍ تهبط بمقام الله أو ترفع من شأن الزعيم، وهو أمر كرّسه القرآن، وهم يتربون على مائدته اللغوية والمعنوية".

وعلى ذلك، تتضمّن هذه المقولة ضمن سياقاتها في الخبرة الغربية تجربة خاصة بتلك الخبرة لتلك السلطة الزمنية، حتى أنها قد خاضت حروبا تحت غطاءات دينية، من مثل تلك الحروب التي استمرّت قرونًا، وأسميت "الحروب الصليبية"، بينما كانت الكتابات العربية والإسلامية المختلفة تشير إلى نزع هذه القداسة والشكل الدوني لهذه الحروب، حينما سموها "حروب الفرنجة". أما السياقات الإسلامية فلا تنتمي، في أي حال، إلى تلك الخبرة أو شعاراتها التي ارتبطت بها من قريب أو بعيد في النظر إلى السلطة باعتبارها حالة بشرية، وإن بدا أن يكون لها، بحكم أداء هذه السلطة وظائف دينية في هذا المقام، ولكنها في أي حال لا تعد حكمًا أو تحكّمًا من رجال الدين في شأن السلطة. بل الصواب في هذا الشأن ذلك الإصرار على تسمية هؤلاء علماء الدين. وحديث "السلطان ظل الله في الأرض" منكر متنه في كل رواياته، لا يستسيغه عقل، ولا تقبله عقيدة، وكل سلطانٍ تنزع نفسه إلى التألّه على الناس، إلّا ما رحم ربي. والتاريخ كما الواقع خير دليل على ذلك، وقد أفرد القرآن أعظم مساحةٍ من آياته في توهين أمر أعظم سلاطين الأرض؛ فرعون وفرعونيته وادّعاء الألوهية منه.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".