تعدّدت الأسباب والموت واحد في غزّة
منذ زمن ونحن نسمع تعبير "فلان شهيد لقمة العيش". سمعنا ذلك حين كان يصل إلينا خبر وفاة أحد أبناء غزّة في إحدى دول الخليج العربي التي استقطبت الآلاف منهم في عقد الستينيات، وغالباً لم يتعدَّ سبب الوفاة السكتة القلبية أو حادث السير. كنّا نشعر بالأسف والحزن، ويقام بيت العزاء للفقيد لأيام ثلاثة، رغم أنّه قد ووري في الثرى بعيداً عن بلاده.
اليوم، وفي أتون هذه الحرب الطاحنة، تسمع وترى وجوهاً وأسباباً كثيرة للموت، لكنّ معظمها يحمل مُسمّى "شهداء لقمة العيش". تأتي الأسباب من البرّ أولاً، وقد حدث ذلك في بداية الحرب حين كانت شاحنات المساعدات تدوس الجائعين المتحلّقين حولها أو المتسلّقين فوقها. والطامّة الكبرى التي حدثت وما زالت هي الموت قصفاً في أثناء انتظار شاحنات الطحين القادمة من جنوب القطاع نحو شماله، المقتطع والمفصول جغرافياً، حتى أُطلق على من يُقتلون وهم ينتظرون كيساً من الطحين اسم "شهداء الطحين". أما المناطق اللافتة بجمالها وحيويّتها في غرب غزّة، والتي كانت تعجّ بالمصطافين الساهرين صيفاً، وطالبي النزهات تحت قطرات المطر مع مشروبٍ ساخنٍ شتاءً، ومع كل المشاعر طوال العام التي لا تعبّر إلا عن الحياة وضجيجها وحيويّتها، فقد أطلقت عليها أسماء بشعة، مثل أن تحمل إحداها اسم "دوّار الموت". وهكذا، للموت على الأرض صوره بحثاً عن لقمة عيشٍ لا تصل، وإن وصلت فهي مغمّسة بالدم.
أما الموت بحثاً عن لقمة عيش قادمة من السماء، فيحدُث منذ أصبحت صناديق المساعدات الإغاثية تُلقى بالمناطيد. ولسوء حظ الجوعى، يُصاب كثيرون منهم في مقتل حين يسقط الصندوق الضخم على رؤوسهم مباشرة أو حين لا ينفتح المنطاد تلقائياً بمجرد إلقائه من الطائرة ليسقط سقوطاً فظيعاً وقاتلاً على شخص ملهوف أو أكثر. أما الأشدّ وجعاً أنّ هناك من التفّت حبال المنطاد حول عنقه، وقضى مختنقاً حين انشغل بمحاولات الوصول إلى الصندوق الضخم، في سباق جوعى غير مسبوق.
أما شهداء لقمة العيش الذين سقطوا بحراً، فأولئك الذين قذفوا بأنفسهم بين الأمواج العالية أملاً في الوصول إلى صناديق المساعدات التي أخطأت طريقها وسقطت في البحر، بعدما ألقت بها طائرة بالقرب من الساحل، لكنّ الريح ذهبت بها نحو سببٍ جديدٍ لموت الغزّيين الجوعى، هو الموت غرقاً. فغالبية الغزّيين، بالمناسبة، لا يجيدون السباحة، رغم أن القطاع بكامله يُعدّ منطقة ساحلية، ولكن لطيبة وبساطة هؤلاء فهم لم يتعلّموا السباحة لثقتهم بصيادين محترفين ورثوا المهنة أباً عن جد، وتخصصت عائلات منهم بمهنة الصيد، لدرجة أنّك بمجرد أن تسمع اسم فلان ملحقاً باسم عائلته، تعلّق بقولك إنه صياد ابن صياد. والحقيقة الأكثر دقّة أنّ هناك لاجئين في غزّة قد ورثوا مهنة الصيد بسبب وقوع قراهم التي هُجّروا منها إبان النكبة على شاطئ البحر، فحين يخبرك أحدهم بأنّه يتحدّر من قرية الحورة مثلاً، تعرف أنه ابن عائلة تمتهن الصيد ويمتاز أفرادها، ذكوراً وإناثاً، ببنية قوية، وبأسنان لامعة، وببصر حادّ، وبمناعة ضد الأمراض، لأنّ جلّ طعامهم هو من خيرات البحر. لكن اليوم، ألقى الجوع القاتل في غزّة بالرجال في خضم الموج بلا دراية أو تأنّ. حتى الصيادون ينتشلون صناديق المساعدات فقط. ولذلك أصبح لزاماً أن نضيف الموت غرقاً سبباً جديداً إلى أسباب الموت الأساسية منذ بدء الحرب الجنونية، وهي قصف الصواريخ وقذائف الدبابات، والقنص بالرصاص من الطائرات المسيّرة أو القنّاصة الذين يعتلون البنايات العالية، ويكون الغزّي، الضحية، مثل العصفور الغافل الذي لا يملك سوى أجنحة رقيقة قصيرة.
نخطئ حين نختصر وجع غزّة بقولنا إنّ أهلها ماتوا ويموتون، ولكنّ الفاجعة الواضحة أنّ أهلها قد خبروا كلّ أنواع الموت، حتى نسوا شكل الحياة. وإنّ أصعب صور الموت وأقسى أسبابه هو الموت المنتظر والبطيء، والمتلوّن في كل مرّة بشكل جديد، حتى أضحى لسان حال الغزّيين يُردّد: نجا من مات فعلاً.