تشدّد الأسد وتحرّكات الداخل
لم يثر حوار الرئيس بشّار الأسد مع "سكاي نيوز" يوم الأربعاء المنصرم اهتماماً كبيراً لدى السوريين، قبل الإعلان عنه. ثم شعروا، بعد بثّه، بخيبة أملٍ متجدّدة. احتاجت أحوال سورية والسوريين إلى مبادرة شجاعة من رأس النظام بالتحديد، منذ تولّى الحكم 2000، وطبعاً منذ 2011. كما تجاهل منذ وصوله إلى الحكم الإصلاح السياسي، كذلك فعل طوال مدّة حكمه؛ وسورية حاليا أحوج إلى ذلك. أبداً، لقد أصرّ على أن كل ما جرى في سورية مؤامرة وإرهاب، وبسبب الاحتلال التركي، ومن دعم الإرهاب هو المسؤول عن خراب سورية، وهذا يتضمّن الدول العربية، وفقاً لمنظوره.
هذه الإجابات تكرارٌ للإجابات ذاتها منذ 2011، أي أنّه لم يتلمّس أهمية أن العرب فتحوا له باباً للخروج من مأزقه، ولم يهتم بفتح أميركا وأوروبا له باباً آخر للتطبيع مع العالم بعد التخفيف من العقوبات إثر الزلزال. لم ينبس ببنت شفة في ما يخصّ الأزمة الاقتصادية والتدهور الحادّ لقيمة العملة، وللاحتجاجات التي بدأت بإعلاناتٍ خجولةٍ من الموالين له، والتي تدقّ ناقوس المجاعة، وأن الوضع لم يعد يحتمل أبداً تأجيل التغيير في السياسات العامة للدولة. وقد ظهرت، أخيراً، حركة شبابية سمّت نفسها 10 آب، وبدأت بتوزيع قصاصات في بلدات عديدة، كجبلة واللاذقية ومصياف والسويداء وحلب وريف دمشق.
لا يمتلك الأسد أيّة إمكانية لتغيير نظامه، ولهذا يكرّر رؤيته القديمة، وحتى أصدقاؤه الروس والإيرانيون يبدون غير قادرين على مساعدته، بل ويطالبونه بمزيد من التنازلات؛ فلإيران ديون بأكثر من خمسين مليار دولار، والنظام يرهن مستقبل سورية لإيفائها إياها؛ اتفاقيات للاستثمار في الثروات الباطنية وبيع الأراضي، وإعطاؤهم خطاً خليوياً جديداً، وسواها.
كانت أسئلة محاور "سكاي نيوز" عامة: عن الثورة، وتركيا، وعن المبادرة العربية، وعن عائلته الخاصة والتوريث، عن المخدّرات، ولكن الرئيس الأسد لم يُسأل عن الأوضاع الداخلية المتأزّمة، وكيفية مواجهتها، إذ ليس لديه أيّة مخارج داخلية، عبر نظامه، والأنكى أنّه علّق كل الحلول على الخارج، رغم أنّه خفّض من قيمة قانون قيصر، وهو القانون الأساسي ضد نظامه، وعليه تُبنى بقية القوانين الأميركية، كقانون الكبتاغون وغيره. وطبعاً أخطأ في ذلك التخفيض، حيث يقلّص بذلك من دور العقوبات في الأزمة الداخلية، وبالتالي، تصبح الأزمة بسبب سياسات النظام وليس العقوبات أو المؤامرة أو الإرهاب وسواه.
ما يتجاهله النظام في سورية أن الأزمة المتفاقمة وصلت إلى حدّ المجاعة
شكّلت الأزمة الاقتصادية العميقة في إيران والحرب الروسية على أوكرانيا سبباً في انخفاض الدعم عن النظام السوري أو تلبية احتياجاته، لا سيما أن الاقتصاد السوري في حالة عطالةٍ شبه كاملة، وتجلّى الأمر عبر تراجعٍ يوميٍّ، وليس شهرياً، لقيمة العملة السورية. أدّى هذا الوضع هذا إلى تدهورٍ اجتماعي كبير في أوضاع الكتلة السكانية الكبيرة الموجودة تحت سيطرة النظام، وكان لهذا أثره في ظهور أصوات ناقدة له، وتحميله مسؤولية الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، ولم تشرْ تلك الأصوات إلى دور الخارج في الأزمات. صحيح أنّها حركات هادئة وبسقفٍ منخفض، لكنها تصرّ على ضرورة الإصلاح ومحاربة الفساد، وتحمّيل "القيادة" جزئياً مسؤولية الأزمة الاجتماعية.
لا يتحمّل النظام نقداً، أو احتجاجاً شعبياً، ولهذا يتشدّد، ويحاصر تلك الحالات فوراً. ولهذا نجد تلك الأصوات تتراجع من جهة، وتعود لتتقدّم ببطء شديدٍ. ظهرت حركة 10 آب، وأصدرت بياناً تأسيسياً، منخفض المطالب، ولكنها مطالب جادة، كتحسين الأجور، والتوقف عن بيع القطاع العام، والعودة إلى دعم بعض الحاجات الأساسية للأغلبية الشعبية، كالخبز والمحروقات وإعادة الكهرباء بمعدل 20 ساعة يومياً وإخراج المعتقلين السياسيين، وقضايا أخرى.
عكس تحقيق تلك المطالب، أصرّ النظام على رفع سعر الأدوية 50%، والإعلان عن رفع سعر الخبز، وزاد من سعر المحروقات، ورافق تلك الزيادات ارتفاع في عمليات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وبعض التفجيرات هنا وهناك، وقد ربط أغلبية المعلقين الأمرين معاً، وكأنّ النظام يريد تذكير الموالين بأن الحرب لم تنته، ويمكن أن تطاول كل المناطق الموالية من جديد، وبالتالي، يجب الصمت من جديد، وإغلاق الأفواه المحتجّة، ورفع عقيرة الأصوات المؤيدة.
أصبحت أزمة النظام شاملة، ولكن لم يعد في حوزته إلّا رفع الدعم، وفرض الضرائب، وإتاوات الحواجز
ما يتجاهله النظام أن الأزمة المتفاقمة وصلت إلى حدّ المجاعة، وبدأت تتساوى الحياة مع الموت لدى "الموالين"، وأصبح الأخيرون أشدّ رفضاً له، وإذا تراجعت المعارضة والفصائل لأسبابٍ كثيرة، منها ارتهانها لسياسات الدول المتدخّلة في شؤونها، ووفقاً لسياساتٍ وضعتها كل من روسيا وأميركا في سورية، فإن الكتلة الشعبية التي يفرض سيطرته عليها، لا سيما في بلدات الساحل، أصبحت في أمسّ الحاجة للتغيير الاقتصادي والاجتماعي، والآن بدأ صوتها السياسي بالعلو.
أصبحت أزمة النظام شاملة، ولكن لم يعد في حوزته إلّا رفع الدعم، وفرض الضرائب، وإتاوات الحواجز. وتؤكّد تقارير أن شخصيات كثيرة منه تسهّل صناعة الكبتاغون والاستثمار فيه، وكانت لهذا الأمر ردود فعل دولية سيئة. وأخيراً، بدأت الإجراءات العملية لمواجهة هذه التجارة، وعبر إشرافٍ أميركي وتنسيقٍ مع الدول المجاورة لسورية.
فشل النظام، أيضاً، في الحصول على أموالٍ ضخمة من السعودية أو الإمارات، إذ تستهلك حاجات الحرب والاستمرار في القمع أغلبية الأموال المحصّلة من الضرائب وسواها. وبالتالي، هناك شبه عزلة دولية، حتى من حلفائه. ولهذا، كان على الأسد أن يتقدّم بمبادرةٍ للتنحّي، ووضع مهلٍ محدّدة، بما يسهّل خروج عائلته وشخصيات النظام الأساسية من السلطة، والبدء بمرحلة انتقالية، ووفقاً للقرارات الأممية، لا سيما 2254 الذي يعطي النظام دوراً في تلك المرحلة.