تركيا وإيران والعرب

16 اغسطس 2016

روسيا وإيران وتركيا في سورية وغياب عربي

+ الخط -
يمكن الجزم أن الأعوام التي نعيش أحداثها السياسية تساوي عقوداً مما مضى. المشهد السياسي الشرق أوسطي يمور بأحداث جسامٍ كثيرة، تتغير وتتبدل بشكل دراماتيكي. من كان يخطر في عقله أن إيران أول دولة بادرت لدعم الرئيس رجب طيب أردوغان، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة عليه. من كان يتصوّر، مجرد تصور، إمكانية رؤية تقارب إيراني تركي روسي، بعد كل ما حدث على الجبهة السورية.
من رحم المعاناة تتوالد الفرص. نحن في خضم مرحلةٍ حرجة، كل الأمور فيها مفتوحة، فتركيا عاشت لياليَ عصيبة، بعد إحباط محاولة إطاحة الرئيس أردوغان. اكتشف الرجل، في أثناء محنته التي ما زالت نتائجها تختمر داخل الأراضي التركية وخارجها، وهو يعمل، قصارى جهده، على تصفية بقايا حركة فتح الله غولن، ومن ساعده من الجيش، أو يفكّر في التعاطف معه مستقبلاً، كيف أن الغرب قلب له ظهر المجن. بل أكثر من ذلك، شمت الغرب بـ"الحليف" أردوغان، ووصفته الصحف الغربية بـ"الديكتاتور"، بعد إعلان حالة الطوارئ، ومسارعته للتخلص من المشكوك في "ولائهم" لغولن، الحليف السابق، حيث لم يقم أي رئيسٍ غربيٍ بزيارة تركيا، أو إشهار دعمه لأردوغان علناً، إلا بعد أن استتب الأمر، ولو نجح الانقلاب، لما وجد أردوغان من الغرب من يترحم عليه. على عكس كل من إيران وروسيا، اللتين بادرتا إلى إعلان دعم الرئيس المنتخب، وشجب محاولة الانقلاب عليه، وإذا صحت التسريبات التي تناولتها صحف محسوبة على موسكو، أن روسيا أول من حذر الرئيس، فإن وقع المسألة سوف يتضاعف بما لا يمكن التكهّن به.
ليست تركيا الدولة الضعيفة التي يمكن للغرب التحكّم بها، وفرض وصايته عليها، وتحديد أولوياتها، وكونها عضواً في "الناتو" لا يعني أنها خاضعة لسياسته. كذلك أردوغان، ليس السياسي المبتدئ أو المهزوز الذي يمكن فرض الأجندة الغربية عليه بسهولة، وجرّه إلى خياراتٍ يمكن أن تساهم في إطاحته مستقبلاً. الرجل ذكي ويخبر السياسية جيداً، وله إسهاماتٌ كبيرةٌ في تعزيز الاقتصاد التركي، ولحزبه جماهيرية معتبرة في الشارع، كما أن خصومه ليسوا على شاكلة بعض "المعارضات" العربية التي يمكن أن تسعى إلى الانتقام من الحاكم بتدمير البلد، بالتحالف مع "الجهاديين" وتعاون مع المستعمر، وقد تكون هذه المفاجأة هي ما أحزن الغرب، حيث العلمانيون والإسلاميون في خندقٍ واحد، ضد الانقلاب ومع العملية الديمقراطية ووحدة الأراضي التركية. كل هذه الأمور مجتمعة، ساعدت الحكومة على تجاوز المحنة، ووفرت لها أرضيةً سياسيةً مناسبة لفتح مسار جديد مع الروس، بعد الأزمة التي نتجت عن إسقاط الجيش التركي المقاتلة الروسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015.

تنبأ محللون سياسيون بأن الرئيس أردوغان يفكر بالاستدارة، عن سياسة المواجهة المفرطة التي كلفته كثيراً في الداخل والخارج، خصوصاً، بعد أن اكتشف بالتجربة والبرهان أن الغرب (الحليف) لا يمكن المراهنة عليه، وأن ما يخطط له الأميركان مع الأكراد قد يضرّ بوحدة الأراضي التركية، وبالتالي، سوف يجعل من سقوط أردوغان أمراً حتمياً لو نجحوا في إقامة دولة. من هذا المنطلق، كان منطقياً جداً تقبّل فكرة إقالة رئيس الحكومة السابق، أحمد داود أوغلو، العقل الاستراتيجي لحزب العدالة والتنمية، لكي يتاح للرئيس الدوران قدر ما يشاء تجاه الروس والإيرانيين، بعد مرحلة عسيرة من الصدام.
في السياسة، تفرض الظروف على الأرض نوعية الملفات، وليس العكس. في جعبة أردوغان مجموعة من الأمور عليه المسارعة بالبحث لها عن حلول. على مستوى الداخل التركي، أمام الرئيس فرصة سانحة للتعجيل بتحقيق حلمه، بتحويل النظام من برلماني إلى رئاسي، وفي سبيل هذا الحلم، يقوم الآن بتصفية من قد يشكل عائقاً أمام التحول داخل أجهزة الدولة. ثم قضية الأكراد، والتي يشاركه الإيرانيون والعراقيون والسوريون الخشية منها. فالأكراد يخوضون حرباً حقيقية في الجنوب التركي والشمال السوري والعراقي، وقد حققوا نجاحاً مذهلاً في منبج، أخيراً، بدعم أميركي، وعيونهم نصب تحقيق حلم الدولة الكردية. خصوصاً، أن الأميركي والإسرائيلي سوف يُرحبان بها، إن حصلت؛ لأن وجود دولة كردية في الشمال السوري والعراقي لا يمكن أن تستمر في محيط عربي مضطرب، من دون دعمهما، كما أن نجاح الأكراد في اقتطاع أجزاء من سورية والعراق وبسط حكم ذاتي أن يحفز أكراد تركيا وإيران على التعجيل بالقتال، في سبيل وصل الأمة التي منعت الجغرافيا تحقيق أحلامها.
ضمن هذا السياق، يسعنا فهم سر العواطف الجياشة المفاجئة بين الإيرانيين والأتراك، فعلى الرغم من اشتداد المعارك في حلب التي يدافع فيها كل طرف عن حليفه، إلا أن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، استقبل نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف، وقد نتج عن اللقاء اتفاق الطرفين على "وحدة الأراضي السورية ومكافحة الإرهاب، والسعي إلى تقريب نقاط الخلاف بين البلدين، فيما يتعلق بالأزمة السورية".
فرضت الاحداث الماضية على جميع الأطراف النزول من الشجرة، فتركيا سارعت إلى إصلاح علاقاتها مع إيران وروسيا، على قاعدة "لا يقتل الذئب ولا يفنى الغنم"، لكن المصيبة في العرب الذين ما زالوا يحلمون بنصرٍ بالضربة القاضية.





59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"