تركيا تختبر حدود قوة أردوغان

14 مايو 2023

أردوغان يحيي مؤيدين له في بيوغلو في إسطنبول (13/5/2023/فرانس برس)

+ الخط -

يُصوّت الأتراك اليوم الأحد لاختيار رئيس وبرلمان جديديْن للجمهورية التي ستطوي بعد أشهر قليلة مئويتها الأولى. ستختبر هذه الانتخابات، بدرجة أساسية، حدود قوة رجب طيب أردوغان صانع تركيا الحديثة، وأحد أقوى الزعماء الذين تعاقبوا على حكمها منذ مصطفى كمال أتاتورك. لقد استطاع على مدى عقدين الفوز بـ15 استحقاقاً انتخابياً على التوالي، بينها 12 انتخابات برلمانية ورئاسية ومحلية، وثلاثة استفتاءات شعبية، كما واجه احتجاجات مناهضة له في عام 2013 ومحاولة انقلاب عسكري فاشلة في عام 2016. لكنّ نجاته من هذا الاستحقاق لا تبدو مضمونة على غرار الاستحقاقات السابقة. سيُواجه معارضة موحّدة بشكل غير مسبوق خلف منافسه القوي كمال كلجدار أوغلو. كذلك يخوض المنافسة في ظروف اقتصادية صعبة لم يسبق أن شهدت تركيا مثيلاً لها منذ وصول أردوغان إلى السلطة. ومن المحتمل أن تدفع بشريحة من قاعدة الدعم التقليدية له إلى التصويت لخصمه. لأن المنافسة بين أردوغان وكلجدار أوغلو على الرئاسة تبدو متقاربة إلى حد كبير، فقد تُضطرّ البلاد لإجراء جولة إعادة في 28 مايو/ أيار الجاري.

مع أن هذه الانتخابات تبدو منافسة غير مسبوقة في التاريخ الحديث للجمهورية بين تحالف حاكم وائتلاف معارض من أجل السلطة، إلّا أنّها، قبل كل شيء، ستكون استفتاءً على الإرث الذي صنعه أردوغان، الحافل بالإنجازات والجدل على حد سواء. لقد صنع هويّة جديدة لتركيا ممزوجة من خليط من الهوية المحافظة الذي أعاد إليها الاعتبار والهوية العلمانية الذي لم يتخلّ عنها ناقلاً العلاقة بين الهويتين من مرحلة التصادم إلى مرحلة التعايش. كما غيّر شكل النظام السياسي للبلاد على مراحل. كانت البداية من أول تعديل دستوري في عام 2007، والذي جعل رئيس الجمهورية يُنتخب مباشرة بالاقتراع العام بدلاً من انتخابه من البرلمان. ثم التعديل الدستوري في عام 2010 الذي قلّص دور القضاء العسكري، وصولاً إلى استفتاء عام 2017 الذي ألغى النظام البرلماني للجمهورية وشكل النظام الرئاسي. لأن المعارضة تعد بإلغاء هذا النظام والعودة إلى النظام البرلماني المُعزّز، فإن تحوّلاً سياسياً محتملاً في تركيا سيدفع باتجاه إعادة تشكيل نظامها السياسي. من أجل ذلك، تحتاج المعارضة للفوز بأكثر من نصف مقاعد البرلمان لطرح مشروع تعديل الدستور على الاستفتاء الشعبي، أو بغالبية الثلثين من أجل تمرير التعديلات الدستورية في المجلس من دون الحاجة إلى استفتاء.

قد يكون التطور المذهل لتركيا في الاقتصاد والقوة العسكرية خلال عهد أردوغان الأقل إثارة للجدل بين الأتراك. في عهده، أضحت البلاد من بين أكبر 20 اقتصاداً على مستوى العالم. وتوسّعت الطبقة الوسطى التي أضحت مهيمنةً على باقي الطبقات الأخرى، وأصبحت قاعدة الدعم الأساسية التي استمدّ منها أردوغان قوته. كما نمت الصناعات العسكرية المحلية، وأصبحت تُغطي ما يقرب من 80% من احتياجات تركيا العسكرية. وتحوّلت البلاد إلى مُصدّر رئيسي للأسلحة. وفي عهد أردوغان أيضاً، أصبحت تركيا أكثر نشاطاً في استخدام القوة العسكرية في الخارج. قبل حكمه، كان الوجود العسكري التركي في الخارج يقتصر على جزيرة قبرص، لكنّ حدود هذا النشاط، بعد مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة، توسّع بشكل متسارع. لدى تركيا الآن وجود عسكري في شمال سورية وقواعد عسكرية في شمال العراق لمحاربة حزب العمال الكردستاني المحظور، وقاعدة عسكرية في قطر وقاعدة عسكرية أخرى ضخمة في الصومال. وأدّت القوة العسكرية التركية في الخارج إلى تغيير مسار عدد من الصراعات مثل حرب قره باغ الثانية في جنوب القوقاز، والعمليات العسكرية التركية في شمال سورية، والدعم العسكري للمنطقة الغربية في ليبيا.

استطاع أردوغان تحويل تركيا إلى قوة قائمة بحد ذاتها، وتسعى إلى الموازنة بين هويتها الجيوسياسية بوصفها جزءاً من حلف شمال الأطلسي والمنظومة الغربية وبين مصالحها مع موسكو

سيكون مستقبل هذه القوة محلّ شكوك لو فازت المعارضة في الانتخابات. وعد كلجدار أوغلو بإحداث تغيير جذري على السياسات التركية في مناطق النزاعات. إنه يرى أن الانخراط التركي في صراعات الشرق الأوسط بعد عام 2011 لم يجلب سوى المشكلات لتركيا. يبدو ذلك صحيحاً جزئياً، لكنّه، في المقابل، جعل تركيا لاعباً أساسياً في عملية إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية المحيطة بها جنوباً. سيكون لتراجع محتمل في الدور التركي في الشرق الأوسط آثار كبيرة على المنطقة بأسرها، وسيُحدث فراغاً كبيراً قد يُحدِث خللاً في الجغرافيا السياسية الإقليمية. لا يزال من غير الواضح كيف سيوازن كلجدار أوغلو بين التخلص من "لعنة" الشرق الأوسط وضمان مصالح تركيا الأساسية في المنطقة، لا سيما في مجالات الأمن والمصالح الحيوية لتركيا في الصراع الجيوسياسي شرق البحر المتوسط. سيكون تراجع تركي على الأرجح محلّ ترحيب لدى القوى الإقليمية التي عانت سنواتٍ من الاندفاعة الإقليمية للسياسة الخارجية في عهد أردوغان، لكنّ الفراغات المحتملة التي ستتركها تركيا قد تُشكّل خطراً أكبر على مصالح القوى الإقليمية. في سورية، على سبيل المثال، سيكون تراجع في الدور التركي بمثابة نعمة لإيران التي ستُحاول تعزيز حضورها بشكل أكبر في هذا البلد. وينطبق الحال نفسه على شمال العراق.

في القضية الكردية، كان أردوغان الزعيم التركي الوحيد الذي نقل العلاقة بين تركيا وأكرادها من مرحلة الصدام إلى مرحلة التعايش. لقد منح حقوقاً ثقافية ولغوية للمكوّن الكردي كانت قبل عهده أشبه بحلم. كما أبرم اتفاق سلام تاريخي مع حزب العمال الكردستاني في عام 2013 لم يصمد سوى عامين. وفي عهده أيضاً، كان حزب "الشعوب الديمقراطي" الكردي أول حزب سياسي كردي يدخل البرلمان. مع ذلك، مُنيت العلاقة التي صنعها أردوغان مع المكوّن الكردي بانتكاسة بعد انهيار عملية السلام. ويرجع ذلك، بشكل أساسي، إلى تأثير صعود النزعة الانفصالية لأكراد سورية بعد عام 2014، والتي أدّت إلى إعادة النزعة الانفصالية لحزب العمّال في الداخل. يعد كلجدار أوغلو بتنّي نهج مختلف بشكل جذري عن أردوغان في الحالة الكردية. من غير المؤكّد ما إذا كان هذا الوعد ينمّ عن رغبة صادقة بإحداث مثل هذا التحوّل، لكنّه كان بحاجة له لاستقطاب ناخبي حزب "الشعوب" الكردي، من أجل تعزيز فرص فوزه بالرئاسة. ومؤكّد أن أحد الاختبارات الكبيرة التي ستواجه كلجدار أوغلو فيما لو وصل إلى السلطة هي القضية الكردية. تنفيذ الوعود في قضية حسّاسة ومعقدة من هذا النوع وتتعلق بالأمن القومي التركي أسهل بكثير من إطلاقها.

نجاح محتمل لأردوغان في الانتخابات سيقطع الطريق على تساؤلاتٍ صعبة بخصوص مكانة تركيا في عصر التنافس الجيوسياسي الجديد بين القوى العظمى

وفي السياسة الخارجية مع الغرب وروسيا، استطاع أردوغان تحويل تركيا إلى قوة قائمة بحد ذاتها، وتسعى إلى الموازنة بين هويتها الجيوسياسية بوصفها جزءاً من حلف شمال الأطلسي (الناتو) والمنظومة الغربية وبين مصالحها مع موسكو. بالنظر إلى أن كلجدار أوغلو يعد بأن يُعيد التأكيد على هوية تركيا جزءاً من "الناتو"، وإعادة تشكيل العلاقة مع روسيا على قاعدة مختلفة عن التي وضعها أردوغان، فإن مستقبل التوازن التركي بين روسيا والغرب سيكون محلّ اختبار كبير. حقيقة أن مثل هذا الاختبار يأتي في خضم حرب مشتعلة منذ أكثر من عام بين روسيا وأوكرانيا، وفي ظل حرب باردة جديدة بين موسكو والغرب، تجعل من أي تحوّل في السياسات ينطوي على مخاطر كبيرة.

من المؤكّد أن نجاحاً محتملاً لأردوغان في الانتخابات سيقطع الطريق على تساؤلاتٍ صعبة بخصوص مكانة تركيا في عصر التنافس الجيوسياسي الجديد بين القوى العظمى. قد تشهد العلاقة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في حال فوز المعارضة، انفراجة جزئية، لكن الرهان على ذلك لا يزال محفوفاً بالمخاطر. ستبقى القضايا المعقّدة التي أدّت إلى تدهور العلاقات التركية الغربية في السنوات الماضية قائمة كالقضية القبرصية، وحاجة تركيا إلى الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقة مع روسيا. مع ذلك، مُجرّد أن تُعيد تركيا ضبط هويتها الجيوسياسية من منظور غربي سيُعد قيمة جيوسياسية ضخمة للغرب، وتحدّياً جديداً لروسيا.