تحدّي ترامب
مرشّحاً للرئاسة، ثمَّ رئيساً، ثمَّ مرشّحاً خاسراً، لا يفتأ دونالد ترامب يمثل معضلة بالنسبة للولايات المتحدة. المفارقة أن هذا الرجل لا يخضع للقوانين الطبيعية التي يخضع لها الآخرون، وهو يدرك ذلك تماماً، وكان يوماً صرّح وهو مرشّح للرئاسة، عام 2016، أن بإمكانه أن يطلق النار على أحد ما في شارع مزدحم، ومع ذلك لا يخسر صوتاً واحداً. ورغم هزيمته المدوّية في الانتخابات الرئاسية عام 2020، أمام جو بايدن، ورفضه الاعتراف بها، بل وحتى محاولته قلب نتائجها، وما أعقب ذلك من اقتحام مؤيدين له مبنى الكونغرس في محاولة لمنع التصديق عليها، إلا أنه لا يزال يُحكم سيطرته على الحزب الجمهوري، ولا تزال الدولة تكابد في محاولة محاصرته ولجمه وتحييد ما تعدّه خطراً داهماً يمثله على الديمقراطية الأميركية.
يواجه ترامب اليوم حزمة من التحقيقات الفدرالية والولائية، وما دون ذلك، التي تطارده، سواء في ما يتعلق بمعاملاته التجارية واتهامات التهرّب الضريبي، أو بمسؤوليته المفترضة في التحريض على اقتحام الكونغرس في السادس من يناير/ كانون الثاني من العام الماضي، أو في مزاعم الضغط على مسؤولين في ولاية جورجيا للتلاعب بنتيجة الانتخابات الرئاسية فيها، والتي خسرها بهامش ضيق جداً. وكأن ذلك كله لم يكن كافياً له، فكان أن جاء اقتحام عناصر من مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) منزله في وقت سابق من شهر أغسطس/ آب الحالي، في سابقة تاريخية تحدُث مع رئيس سابق، ومصادرة صناديق تحتوي على وثائق مصنّفة "سرّية" أو "سرّية للغاية" حسب مزاعم وزارة العدل. ولكن، وبدل أن يضعضع ذلك وضعه ويُضعفه في الحزب الجمهوري وبين مؤيديه، خصوصاً أن ثمّة إيحاءات بأنه قد يكون انتهك قانون التجسّس الحساس جداً، نجد أن ترامب نجح في تحويل نفسه إلى ضحيةٍ لاستهداف "الدولة العميقة"، وما يدّعيه وأنصاره من تسييس الديمقراطيين وزارة العدل وتسليحها. وحسب تعبير رئيس مجلس النواب الأميركي الأسبق، نيوت غينغريتش، ثمَّة قناعة تتزايد في صفوف الجمهوريين بأن ثمَّة محاولة "لاستشهاد ترامب"، بمعنى إنهاء ظاهرته.
الحزب الجمهوري سيبقى مضطراً إلى الاتكاء على دونالد ترامب وعلى شعبيته الجارفة
وعودة إلى تصريح ترامب عام 2016 إن إطلاقه النار على شخصٍ ما لن يكلفه صوتاً مؤيداً واحداً، فإنه يجد تصديقاً له في فوز أغلب الذين دعمهم في الانتخابات التمهيدية للحزب للجمهوري ليكونوا مرشّحيه في الانتخابات النصفية. كما أننا نجد تصديقاً له في اصطفاف أغلب المسؤولين المنتخبين في الحزب، سواء في الكونغرس أو في الولايات، وراءه، وتقديمهم فروض الولاء له، ومحاولة كسب رضاه. بل إن استطلاعاً للرأي أجرته Politico-Morning Consult، أياماً بعد اقتحام "أف بي آي" منزله في فلوريدا، أظهر ارتفاع نسبة الجمهوريين، والمستقلين الذين يميلون إلى الجمهوريين، الذين سيصوّتون لصالح ترامب إذا عقدت، الآن، الانتخابات التمهيدية للحزب استعداداً لانتخابات الرئاسة عام 2024، من 53% إلى 57%. حتى الذين يفكّرون بمنافسته في الانتخابات التمهيدية، إذا قرّر الترشّح فيها، كنائب الرئيس السابق، مايك بنس، وحاكم ولاية فلوريدا، رون ديسانتيس، لم يجدوا بدّاً إلا أن يصطفوا خلفه ويندّدوا بوزارة العدل وسياساتها "الانتقامية"، في حين تعهّد نواب الجمهوريين وشيوخهم بإجراء تحقيقات شاملة حول وزارة العدل في حال فازوا في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبلة.
ومع أنه لا يمكن الجزم إن كان ترامب سيترشّح للانتخابات القادمة أم لا، خصوصاً إن جرى توجيه تهم جنائية له وإدانته بها أم ببعضها، إلا أن المؤكّد أن الحزب الجمهوري سيبقى مضطراً إلى الاتكاء عليه وعلى شعبيته الجارفة. ورغم أن مؤسّسة الحزب التقليدية تتمنّى عدم ترشّحه، غير أنها تجد نفسها مضطرّة إلى الاستمرار في ترميزه لما يملكه الرجل من قدرة فائقة على التعبئة والتحشيد. هنا يبدو الأمر كأنه سيفٌ ذو حدّين، فالاستمرار في النفخ في قربة ترامب قد يقرّبه من الترشّح مجدداً، وهو ما قد يعني خسارة الانتخابات الرئاسية وتفويت فرصة هزيمة الديمقراطيين، خصوصاً إذا ترشّح بايدن مرة أخرى. ولكن، في الوقت نفسه، عدم الاستثمار في "مظلومية" ترامب واستهدافه قد يؤدّي إلى عزوف كثير من قواعد الجمهوريين ومناصريهم عن التصويت. أما ثالثة الأثافي فهي أعمّ وأشمل، فاحتمال عودة ترامب رئيساً قد يكون كارثة على الولايات المتحدة، إذ إن البلاد قد تكون على موعد مع رئيسٍ عائدٍ يطلب الانتقام. تلك قصة أخرى.