تحدّيات حكومة السوداني
يبدو مشهد التصويت على حكومة محمد شياع السوداني في البرلمان العراقي، مساء 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ثم مباشرته مهامه رئيساً لوزراء العراق في اليوم التالي، في المقرّ الرسمي للحكومة، وكأنه نهاية، من الناحية الشكلية، لثلاث سنوات من الاضطرابات السياسية والشعبية. بدأت من إسقاط حكومة رئيس الوزراء الأسبق، عادل عبد المهدي، في موجة احتجاجات تشرين، والمجيء بحكومة الكاظمي المؤقتة، والتي عايشت اضطرابات مستمرّة ونزاعات ما بين القوى السياسية الرئيسة، وانتهاك المليشيات صلاحيات الدولة، واستمرارها باستهداف المواطنين المعارضين سلطتها غير الشرعية.
ها نحن أمام حكومةٍ بصلاحيات كاملة، وبمدّة ستكون على الأغلب كاملة، على الرغم من تأكيدات السوداني، وكذلك ورود العبارة في المنهاج الوزاري المعلن، أنه سيعمل على إجراء انتخابات مبكرة في ظرف سنة ونصف السنة، وهذه التفصيلة تحديداً يُراد بها التصالح مع التيار الصدري المنسحب من البرلمان، والمحتج على العملية السياسية برمّتها.
حدّدت تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي العراقية، بشكل عملي، الكيفية التي يمكن بها أن "تنجح" حكومة السوداني، بعيداً عن السقوف العالية التي حدّدها السوداني نفسه في كلمة التكليف، ولم يتعاط معها المتابعون بجدّية، فهي كلماتٌ يلوكها كلّ من شغل منصبه في الدورات السابقة، مثل القضاء على الفساد أو دعم سلطات الدولة، وحصر السلاح بيد الدولة. وقد حدّدت التعليقات العملية نقطتين أساسيّتين: توفير 20 ساعة من الكهرباء على الأقل لمختلف المدن العراقية خلال الصيف المقبلة. وضع خطّة سريعة لاستيعاب البطالة في صفوف الشباب، إما من خلال فتح درجات وظيفية في دوائر الدولة، أو بتنشيط القطاع الاقتصادي الخاص.
ويذهب هذان الهدفان، بصورة مباشرة، إلى تهدئة الشارع المحتجّ، ففي العودة إلى تظاهرات 2018 التي اندلعت في البصرة، وأدّت إلى إحراق القنصلية الإيرانية هناك، مع رفع شعار "إيران برّة برّة" فكان سببها سوء الخدمات، وقلة ساعات التجهيز للطاقة الكهربائية في حرّ الصيف.
الأمر يمكن أن يقال كذلك عن مقدّمات احتجاجات تشرين 2019، فقد سبقتها أشهر من اعتصامات خرّيجي الجامعات العراقية أمام نقابات المهن المختلفة، وفي ساحاتٍ متعدّدة، بحثاً عن التوظيف وفرص العمل، وقد جوبهت بخراطيم المياه الساخنة لتفريقهم. ما أجّج الغضب أكثر، وساهم في ولادة انتفاضة تشرين.
أما في مطلب السيطرة على سلاح المليشيات، والذي كان حاضراً بالصواريخ التي تُطلق على المنطقة الخضراء أو تهديد القنوات الفضائية والبعثات الدبلوماسية، فإن هذه الحكومة مشكّلة أساساً من التيارات السياسية المليشياوية نفسها. وهذا ما يعني أنها، على الأرجح، ستُرجع سلاحها إلى المشاجب لتمنح الحكومة التي رعت تشكيلها فرصة أن تنجح في عملها.
الظروف السياسية التي انبثقت منها حكومة السوداني لا تشبه شيئاً مما سبقها، فهي حكومة السيطرة شبه الكاملة لفصيل سياسي واحد، على الرغم من تنوّعاته الداخلية، وهو الإسلام السياسي الشيعي المقرّب لإيران، والذي يمتثل جزءٌ مهم منه لعقيدة ولاية الفقيه الإيرانية. .. وتذكّر هذه الظروف السياسية بالظروف التي كان فيها حزب البعث العربي الاشتراكي "العراقي" مطلع السبعينيات من القرن الماضي، مع تشكيل الجبهة الوطنية، بالتحالف مع الحزب الشيوعي العراقي وبعض الأحزاب الكردية وشخصيات من أحزاب وطنية أخرى. وقد أنهى هذا التحالف ظاهرياً الصراعات السياسية بين الأحزاب الموجودة في وقتها، ولكنّه عمّد حزب البعث حاكماً بشكل مطلق، مع وفرةٍ بعائدات النفط، مكّنته، وصدّام حسين، نائب الرئيس في وقتها، وحاكم الظل الفعلي، من إطلاق مشروعات تطوير للبنية التحتية على مستوى العراق، نقلته بخطواتٍ متسارعةٍ إلى مستويات متقدّمة من التنمية.
يمكن أن تستفيد حكومة السوداني من صمت مقتدى الصدر، والدعم المؤكّد من إيران، ورغبة المجتمع الدولي بحكومة مستقرّة في العراق، في أن تطفئ أغلب مصادر الغضب الشعبي، والتي يمكن أن يضاف إليها، غير ما سبق، لجم شهوة المليشيات في التدخّل في المصالح الاقتصادية الخاصة للمواطنين، وتدخلهم في سير عمل مؤسّسات الدولة والقضاء، وكذلك عدم استفزاز المجتمع المدني، والتعلّم من أخطاء حكومة عادل عبد المهدي، وعدم التعامل العنيف والإجرامي مع حرية التعبير والتظاهر، فإن نجح في ذلك فإنه سيسحب جزءاً كبيراً من مصادر التهديد لحكومته التي يراهن كثيرون على أنها لن تعمّر طويلاً، خصوصاً إن عاد الصدر فجأة إلى ساحات الاحتجاج.